مقالات مختارة

دولة في عين العاصفة

صلاح الشلوي
1300x600
1300x600

نصب خيمة الدولة السعودية في مضيق زوابع السياسات الخاطئة، تجاه اليمن وتجاه قطر وتجاه الخوارج سواء السعوديين منهم مثل المرحوم الخاشقجي اليوم ومن قبله كاد أن يرحم سعد الفقيه والمسعري في لندن أو كانوا خوارج ليبيين قتلوا بدم بادر وألقيت جثثهم في شارع الزيت في واضحة النهار على أيدي بارونات الحرب من التيار السلفي وجرائمه البشعة في البيضاء والأبيار وبنغازي، وهي نفس الطريقة والأسلوب والذريعة التي اغتيل بها خاشقجي في القنصلية السعودية باسطنبول.

خطاب التيار السلفي الأيديولوجي المحرض على العنف والحقد والكراهية والتكفير والحرب المقدسة التي استمدت مفرداتها وتحريضها من قادة الإيديولوجية الوهابية في السعودية.

هذا تخبط وارتباك سياسي واضح ومكشوف للعيان يرتكبه صانع القرار والسياسات في المملكة كدولة، يدعهما ويخرج لها الذرائع الشرعية الدينية تيار ديني متشدد من خلال مؤسسة دينية رسمية متمثلة في هيئة كبار العلماء وصغارهم، بل حتى محترفي التنمية البشرية منهم، الواحد تلو الأخر يبرر ويطلق البخور في الهواء لعل تسترا يجدي الدولة في العاصفة السياسية التي تمر بها الآن، ويخفف فاتورة جريمة الدولة في القنصلية.

بصراحة أنا مع الدولة السعودية بالمطلق، ومع استقرارها بالمطلق، وضد محاولات ابتزازها أو استغلال فرصة الأخطاء التي وقعت فيها كي يتم ابتزازها ماديا، وقلق جدا للخطاب الغربي المتصاعد ضد إعادة تقييم العلاقة معها، وبداية إغلاق مؤسسات سعودية ثقافية تصدر الوهابية والفكر الوهابي المتشدد خارج حدودها، وتجند الشباب السلفي لتنفيذ سياسات الدولة السعودية الأمنية خارجيا في ليبيا وغيرها من الدول عن طريق جهاز الاستخبارات السعودي الذراع الضارب الذي يقوم بتنفيذ سياسات الدولة الرسمية، بل ودخل الحرس الملكي على الخط ليشارك قادته عناصره من الدائرة الأولى مباشرة في الجريمة، وكل ذلك لا يقع عفو الخاطر، ولا تمردا بل هو سياسة دولة ثابتة منذ وفاة الملك عبدالله عليه رحمة الله.

إنها فاتورة باهظة الكلفة بدون شك، ولكن يقع الأمر على عاتق العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز كي يضع الأمر في نصابه قبل أن تعصف العاصفة بالعرش والملك والصولجان، وأن يقدم المسؤولين عن هذا التخبط، وهذا ليس دفاعا عن العرش أو السياسة السعودية المتخبطة، بل هو دافع الشعور بخطورة الهزة التي قد تحدث في المنطقة بسبب خلخلة النظام السعودي، من حيث الدور الذي يمكن أن تلعبه السعودية في المنطقة، وإمكانية مساهمتها في دعم الاختلالات النوعية في توازنات القوى فيها.

وهذا لا يتأتى إلا من خلال موقف حاسم وصارم يقوم به العاهل السعودي تجاه ما يجرى، وإعادة تقييم لكل ما حوله، والاستفادة مما جرى وتحويله إلى فرصة للدولة السعودية الثانية، بدور جديد، ونظرية حكم جديدة يمكنها المحافظة على الدولة، والتخلص بشجاعة من السياسات الخاطئة وذلك عبر المحاور الرئيسية التالية:

داخليا:

أولا : دور الإيديولوجية و المؤسسة الدينية:

لقد ارتبطت الدولة السعودية بالتيار الوهابي المتشدد وتبنت مقولاته الأيديولوجية، وخلقت لنفسها بذلك عداوات مع قطاعات شاسعة في الأمة الإسلامية، وهذا حمل وعبء يجب على العاهل السعودي أن يقوم مباشرة بإلقائه عن كاهل مؤسسة الدولة، وأن يعاد تقييم دور المؤسسة الدينية والمتمثلة في هيئة كبار العلماء بتوجهها الوهابي في سياسات الدولة.

فالجميع يدرك أن ما خرجت الجماعات الجهادية العلمية القتالية إلا من بين فتاوى وإصدارات هيئة كبار العلماء ومن سلسلة كتابات محمد بن عبد الوهاب عليه رحمة الله، والذي شكل إرثا ضخما من التنظير والإفتاء ورسم سياسة الدولة.

ومن هنا يصح القول وبدون أدنى شك أن هذا صار يهدد مستقبل الدولة بشكل مباشر، ولم يعد بإمكان أحد التستر عليه، وفي الدولة السعودية الثانية والتي يقع على عاتق العاهل السعودي تدشينها اليوم يجب التخلص من هذا الاتجاه الإيديولوجي كما تخلص من قبل المتوكل من الاعتزال في النصف الأول من القرن الهجري الثالثة سنة 234 بقدوم الخليفة العباسي المتوكل.

فاليوم الفرصة سانحة أمام العاهل السعودي لينهي نفوذ الوهابية بنفس الطريقة، ويعيد تقييم دور المؤسسة الدينية وتحجيم نفوذها المتغلغل في أركان مؤسسة الدولة السعودية ابتداء من جهاز القضاء، مرورا بجماعات ما يسمى الحسبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك الشورى الشكلية، ووصولا إلى إعادة النظر في مناهج التعليم وليبلغ الأمر إلى نمط الحياة العامة للسعوديين، كل ذلك يحتاج من العاهل السعودي لوقفة إصلاحية عميقة وجذرية وجادة وواسعة، من أجل تجديد حيوية مؤسسة الدولة من جانب ومؤسسة المجتمع من جانب آخر.

ثانيا: على مستوى النظام السياسي

وهنا وإن كانت الفرصة قد أفلتت وفاتت العاهل الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز عليه رحمة الله، الذي كان بإمكانه أن يقوم بإصلاحات حقيقية وجادة في بنية الدولة السعودية ويكون عبدالعزيز الثاني، إلا أن الفرصة ما تزال في متناول العاهل السعودي الحالي الملك سلمان، والتحول إلى نمط الملكيات الدستورية تماما على نفس نموذج نمط الحكم في المملكة المتحدة، وفصل مؤسسة الملك عن مؤسسة السلطة، وفصل رئاسة الحكومة عن رئاسة الدولة تماما كما يقال في وصف المملكة المتحدة أن الملك يملك ولا يحكم.

ومن هنا استحداث نظام سياسي ذي مستويين، مستوى التنفيذ وهو الوزارة والحكومة، ومستوى الملك وهو الملك والعائلة المالكة، وذلك يلزم استحداث نظام الانتخابات والتعددية السياسة والتنافس والتداول السلمي بين أبناء المجتمع السعودي وكوادره على إدارة دفة الحكومة.

وهذا سيخفف من شيئين اثنين؛ الأول الاحتقان الداخل وحسن إدارة الأزمة الداخلية السعودية، والثاني الحساسية الخارجية تجاه مصطلحات الدولة السعودية خاصة في تسمية الميزانية العامة للدولة (بالمنحة الملكية) كأن الدولة فعلا ملك خاص للعائلة المالكة وهذا صار من إرث العصور الوسطى ونظمها البالية، ولم يعد بالإمكان التغطية أو التستر على بشاعته، وإهداره للشخصية المعنوية للهيئة الاجتماعية والمجتمع.

خارجيا، هناك تخبط واضح في السياسة السعودية الخارجية ينبغي أن يتصدى العاهل السعودي لمعالجته، والقيام بخطوات إعادة هيكلة واسعة تجاهها، وإعادة تعريف المخاطر والمصالح الحيوية السعودية، بحيث يكون على رأس تلك الإصلاحات التخلص من الإرث الإيديولوجي الذي أرهقت به مفردات السياسة الخارجية السعودية منذ عصر الدولة السعودية الأولى فيما يعرف بـ “إمارة الدرعية” التي أسسها محمد بن سعود سنة (1157-1744) هجري قبل أن يطيح بها الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد على باشا في حملته، ثم ليأتي لاحقًا عبد العزيز آل سعود الشاب سنة  1902 وليؤسس له في البداية إمارة الرياض التي استردها من يد آل رشيد، ثم ليعلن نفسه ملكا لأول مرة لاحقا على كيان سياسي جديد تحت اسم” المملكة العربية السعودية” على أنقاض ملك الهاشميين وآل رشيد عام 1932م، متحالفا مع آل الشيخ أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصارت من يومئذ الاختيارات الإيديولوجية الحنبلية، ومواقفها المتشددة تجاه الأشاعرة والصوفية والشيعة والأباضية والمعتزلة اليوم، مما حمل الدولة تبعة قلاقل بسبب تبني مواقف أيديولوجية حرمت على إثره الدروس في الحرمين لمن لا يعتنقون الحنبلية في الفكر والفقه أيضا، وحوربت كل المدارس الأخرى.

هذا الإرث المثقل والمحمل بأعباء الجدل والصراع الإيديولوجي صار جزءا من الماضي، ويجب أن تنبذه الدولة السعودية خلف ظهرها للتخفف من مشاكله التي جرها عليها.

ثانيا : تصدير السلفية

الأمر الآخر الذي ورط الدولة السعودية في المنطقة هو تبني سياسة تصدير السلفية إلى الخارج، واستعمالها من قبل أجهزة الاستخبارات السعودية في كل الدول التي تنتشر فيها، بما في ذلك دول البلقان والدول الغربية، سواء عن طريق مواطنين أصليين أم متجنسين، الأمر الذي يقع في بؤرة الرصد من قيل دوائر الرصد الغربية، وكيف تم تحليل ارتباط هذا الفكر الوهابي بالجماعات المتطرفة مثل داعش والمداخلة اللائي تعتبرهن دوائر الرصد ربائب الوهابية النجدية، على الرغم من محاولة بعض رجال الدولة السعودية التملص من هذه الحقائق الدامغة.

السلفية في ليبيا

نحت سياسة الدولة السعودية في تصدير السلفية في ليبيا إلى منحى منحاز لتيار ما يعرف بالمدخلية، التي شنت عناصرها ما يسمي بالحرب المقدسة من منطلق أيديولوجي ضد المخالفين لمذهبهم، مستخدمة لمصطلحات مثل كلاب أهل النار والخوارج وهي نفس التهمة التي قتل بها الصحفي السعودي جمال خاشقجي عليه رحمة الله على أيدي المخابرات السعودية في القنصلية السعودية باسطنبول، ولكن عندما اختفت جثة خاشقجي في غابات اسطنبول لم تختفي جثث المخالفين للمداخلة حيث ألقيت تلك الجثث الممثل بها بطريقة بشعة في شارع الزيت  في حي شبنة ببنغازي.

وأكيد مثل هذا التسلل إلى الساحة الليبية جلب على البلد البلاء والفتنة التي تبث من فوق المنابر من سوء أدب مع المصليين واللعن والطعن والتكفير وتقديم ذلك للناشئة الصغار على أساس أنه جزء من الإيمان بالله، وأن الله لا يرضى عن المؤمن حتى يسب المخالفين له من الطرق الصوفية والأشاعرة والشيعة والخوارج والأباضية، وكل من يخالف سياسات الدولة السعودية في المنطقة، وشن حملات الشيطنة ضده على اعتباره مخالف وخارج عن دائرة المصطلح التاريخي “أهل السنة والجماعة” ومن خلال التيار المدخلي المتسلل إلى المليشيات المسلحة التابعة لحفتر والوحدات والبوابات ونقاط التفتيش والاستيقافات الأمنية في المطارات، صار الدخول والخروج من البلد بل والنزول في أي مطار فيها يهدد حرية وحياة كل من يخالف سياسات الدولة السعودية ويستحق الخطف والسحل ثم الرمي جثة هامدة مشوهة مقطعة الأوصال في شارع الزيت، تماما كما حدث لجمال خاشقجي داخل مبني القنصلية السعودية في اسطنبول.

وهذا يتطلب قيام الدولة السعودية بتفكيك كل هذه التشكيلات الإيديولوجية المتطرفة ورفع الغطاء الديني الذي يوفره لها مشايخ الوهابية في السعودية، والتوقف التام عن محاولة تصدير السلفية والتدخل في الصراعات الداخلية الليبية ومنع الوصول إلى حالة الاستقرار.

حرب اليمن:

شكلت فاتورة التدخل العسكري في اليمن واحدة من أبرز صور التخبط السياسي الذي تنتهجه الدولة السعودية، وورطها في حرب غير أخلاقية ولا مشروعة لا دينيا ولا سياسيا ضد دولة شقيقة بسيطة وفقيرة، ربما كانت في حاجة للصدقة أكثر منها حاجة لشن حرب ضدها، ومع الوقت أدركت القيادة السعودية أي فخ وأي مأزق قد ورطتها فيه تلك السياسات الهوجاء العنيفة التي كانت تظن أن الطريق إلى صنعاء وحضرموت معبد بالياسمين والقات والوناسة، ولم تدرك حتى هذه اللحظة عن حجم الخطر الذي ورطتها فيه المغامرة غير المحسوبة التي تورط في الدولة، ويقف وراء ذلك الحلف الثلاثي مع الإمارات ومصر للاستقواء على شعب اليمن الأعزل، ومحاولة استثمار الاحتراب الداخلي في فرض النفوذ، ربما لم تكن فكرة ذكية على الإطلاق فكرة توحيد اليمنيين الذي سيحتاج لتقسيمه إلى يمان ثلاثة للمحافظة على الإنسان اليمن وعدم تقديم الدم اليمن كقربان لمغامرات الدول الثلاث.

وهنا يقع على عاتق العاهل السعودي القيام بالانسحاب الفوري من التدخل في الشأن اليمني، وترك اليمنيين ليبحثوا لهم عن حل عملي حتى لو كان تقسيم اليمن إلى ثلاث يمان أو أربعة من أجل وقف الحرب بين الأشقاء إذا تعذر استمرار التعايش السلمي القديم بين ما يسمي بالزيدية والحوثية والسنة في اليمن.

حصار قطر

لقد ورطت الدولة السعودية من قبل الإمارات في مخطط خطير للغاية يستهدف ضرب التوازنات الخليجية القائمة عشية خروج القوى الاستعمارية من المنطقة، وإعادة ترتيب البيت الخليجي على أسس قبلية وعوائلية، ولم يعد من المصلحة العودة بالمنطقة إلى نقطة الصفر وسط التوتر والجوار الملتهب والمفخخ أيضا بالمنظمات الإرهابية وعلى رأسها داعش تبحث لها عن الخواصر الرخوة التي تخفف عنها الضغط الذي تواجهه في العراق وسوريا، وهزيمتها مؤخرا ودحرها في سرت.

وهنا يقطع أيضا على عاتق العاهل السعودي وهو كبير الحكام في المنطقة أن يجمع الإماراتيين والقطريين وبقية الأسرة الخليجية ويضع لهم على طاولة المجلس مقاربة جديدة لحل الخلافات الخليجية بطرق سلمية بعيدة كل البعد عن التصعيد المسلح الخطر، وبالتالي فتح الباب على مصراعيه أمام مغامرات مجهولة لن يقف فيها الظهير الفارسي على الحياد البتة.

الخلاصة:

استهداف السعودية كدولة يعتبر خطا أحمرا في اعتبارات منظومة الأمن الإقليمي، ولكن ربط الدولة بالأفراد ستكون مغامرة خطرة أيضا إن لم تنتبه القيادة السعودية له، وهنا يجب فتح المجال أمام التحقيق في قضية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في مبنى القنصلية باسطنبول، ويجب أن لا يقف الاشتباه عند الموظفين بل يجب أن يطال المسؤول الأول عنه مهما علت مكانته في الأسرة الحاكمة إذا أريد للدولة السعودية أن تحافظ على كيانها ومكتسباتها، وأن لا تعرض مصالحها الحيوية لعملية تجريف بسبب السياسة الهوجاء التي نتج عنها الإقدام على اغتيال خاشقجي، أما التستر فما هو بالرأي ولا بالسياسة بل هو مجرد هروب إلى سفح الجبل أمام كرة الثلج.
وهنا فرصة كامنة وسط هذه العاصفة في إعادة تقييم سياسات ومواقف الدولة الداخلية والخارجية، بل وإعادة هيكلة نظام وآلية وصيغة الحكم بما يواكب العصر والتخلص من مخلفات عصر النواجع والغزو والغارات.

وهذا يحتاج من القيادة السياسة المتمثلة مباشرة في رأس الهرم وهو العاهل السعودي ومستشاريه من ضرورة القيام بدور التأسيس الثاني للدولة السعودية الثانية والانتقال إلى طور الملكية الدستورية، من أجل صناعة توازن جديد والمحافظة على بقاء الدولة واستمرارها.
ولات حين مناص.

أما الختام فهو كشف عن موقف لا نفاق فيه، ولا انتهازية بل تقديم رؤية سياسية واقعية، تعتمد على رفع الواقع وتقييم حالة وكشف البدائل المستقبلية وما تنطوي عليه من فرص ومخاطر تحف بالدولة السعودية ومستقبلها.  

عن صحيفة ليبيا الخبر الليبية

0
التعليقات (0)