قضايا وآراء

سجال الحريات والديمقراطية بين المؤسسة السياسية والأكاديمية

رفقة شقور
1300x600
1300x600
أصدر رئيس جامعة إدلب قراراً يمنع فيه الطلاب من إنشاء مجموعات مختلطة بين الجنسين في منصات التواصل الاجتماعي، كما يمنع من إنشاء أي مجموعة دون موافقة رئاسة الجامعة.. تزامنت هذه القرارات مع صدور بيان عن ثلاثين أكاديميا ومثقفا وفنانا تونسيا يعلنون فيه عن مساندة قيس سعيد في قراراته ضد ما أسموه هيمنة منظومة الإسلام السياسي. وبجانب تلك الأسماء التي وقعت على ذلك البيان بصراحة، كانت هنالك مواقف صدرت عن أكاديميين عرب ومواقف لم تصدر في اتفاق ضمني مع الانقلاب الدستوري الذي حصل في تونس.

رغم اختلاف جغرافيا صدور القرار والبيان، فإن الواقع الأكاديمي الذي يعبر عنه كلاهما واحد، وهو سيطرة بقايا النظام السياسي الديكتاتوري البائد على قرارات وتوجهات المؤسسات الأكاديمية بشكل أو بآخر، والدفع نحو تشكيل تيار داخل تلك المؤسسات يرعى الديكتاتورية العائدة ثقافياً وأكاديمياً، ويحشد من حول قراراتها منظرين وأساتذة مستعدين للتحايل على النصوص الواضحة وتأويلها بشكل يبعث على تأليه راعي الثقافة الأول في تلك المؤسسات، وهو الديكتاتور.

بالنسبة لقرار رئيس جامعة إدلب في الشمال السوري المحرر، فإنه ليس من حق أي جامعة أو مؤسسة إصدار قرارات تعتدي على الحريات السياسية والمدنية للمواطنين، وصدور تلك القرارات يعبر عن خط أكاديمي منسجم مع ثقافة الاستبداد وقمع الحريات، وتنشئة جيل يتمثل السلوك القمعي في المؤسسة السياسية، ويتماشى معه فكرياً وثقافياً، ولا يحترم التعدد الفكري والطائفي وكل ما حارب الشعب السوري في العقد الأخير من أجل التخلص منه؛ من هيمنة للمؤسسة السياسية على بقية مؤسسات الدولة.

أتى بيان الأكاديميين التونسيين الذين عبروا عن مساندتهم للانقلاب الدستوري بالأسماء الصريحة، كي يعكس عمق الأزمة الأخلاقية والفكرية في صناعة الموقف لدى نخبة من المفترض أنها تقود الرأي العام في مسالك مستنيرة ومبنية على قراءة معمقة للأحداث، وقدرة على بناء مواقف مركبة منها، إلا أن ذلك البيان يسير في خط معاكس تماماً للمأمول من دور المثقف والأكاديمي عند التحولات التاريخية في بلاده أو تجاه أي قضية عالمية.

إن مقدار التحيز الذي أبداه هؤلاء الأكاديميون وغيرهم ممن أعلنوا مواقفهم صراحة في مساندة قيس سعيد من أجل التخلص مما أسموه الإسلام السياسي الفاسد؛ يثير أسئلة واسعة حول استقلالية المؤسسات الأكاديمية عن النظم السياسية الحاكمة، ودرجة الحصانة التي يوفرها النظام السياسي القائم، بل تلك الحصانة التي توفرها تلك المؤسسات لنفسها تجاه منع هيمنة توجهات النظام السياسي القائم على آفاق عملها ومواقفها وخياراتها وأدوارها الفكرية والمجتمعية.

تلك الخدمات التي توفرها مؤسسة أكاديمية من أجل رعاية الاستبداد، والموقف المتعصب تجاه تيار سياسي واجتماعي قائم بحد ذاته في المجتمعات العربية، وهو التيار الإسلامي السياسي والاجتماعي والديني، تعكس اختراقا لكامل خطوط دفاع الثورة، إن كان في الشمال السوري المحرر في ما أتى على شكل قرارات قمعية أصدرها رئيس جامعة إدلب، أو في تونس مهد الثورات العربية والدولة التي قطعت شوطاً كبيراً في عملية التحول الديمقراطي؛ حتى أحبطه قيس السعيد في قراراته الانقلابية الأخيرة.

تنبهت الديكتاتوريات العربية باكراً لأهمية نفوذها في المؤسسات الأكاديمية في الدول تحت حكمها، والمؤسسات القليلة التي نجت من هيمنة التوجهات الديكتاتورية كانت تحارب عكس التيار الجارف في مؤسسات الدولة، وضمن شخصيات أكاديمية على درجة من الوعي بضرورة استقلال أدوارها في مجتمعاتها، إلا أنها حوربت وتمت ملاحقتها من قبل أجهزة أمن الدولة، ومنهم من قضى ما تيسر من سنوات عمره في معتقلاتها، والأمثلة على ذلك من سوريا كثيرة. وردات الفعل على العريضة الشعبية التي أطلقها أكاديميون تونسيون لاسترجاع الشرعية في مقابل العريضة التي تساند قيس السعيد؛ تعكس حجم التحديات التي تحيط النشاط الأكاديمي الناقد ضمن المحيط الديكتاتوري الناشئ بعد حملات التشويه والتخوين لهؤلاء الأكاديميين.

والمفارقة تكمن في أن مجموعة من الجامعات الغربية أصدرت بيانات واضحة ضمن الأحداث الأخيرة في حي الشيخ جراح وبعد الحرب الإسرائيلية على غزة؛ تعلن فيها تضامنها مع الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الذي يقوم على مبدأ التطهير العرقي، وتحدت تلك الجامعات العريقة في بياناتها ضغط اللوبيات الصهيونية في أوروبا وأمريكا وأستراليا، ولم تمتثل سوى لما أشارت إليه بأنه قيمها الأخلاقية الثابتة في مواقفها. في نفس الوقت رأينا كيف امتثلت بعض الجامعات الغربية لتبني مفهوم معاداة السامية وقانونها، في أروقتها في مشهد يعكس استلاب أمام سطوة الصهيونية العالمية، مما يتثير تساؤلات كثيرة عن كيف يمكن تحصين المؤسسات الأكاديمية من عبث السياسات وعبث السياسيين ونفوذهم المادي أو المعنوي فيها؟

الواضح أنه كلما اشتد الاستبداد في مجتمع من المجتمعات، ظهر من بين الأكاديميين أو الباحثين من يتطوع بنفسه أيضاً وليس قسراً من أجل تقديم حماية لقرارات الحاكم المستبد، في سبيل تبريرها وتسويغها وبيانها على أنها في مكانة أعلى من الدستور والقانون، وبطريقة تظهره بأنه مصدر كل السلطات والتشريعات، وأنه يتصرف من منطلق حمائي للشعب، في الوقت الذي يكون فيه المستبد قد أدى أدواره الوصائية على كل مكونات المشهد، بما فيها عقول من يبررون له أفعاله.

حين تخضع التعيينات في المؤسسات الأكاديمية لمنظومة الفساد والاستبداد والمحاصصات الحزبية والفصائلية، فإنه ليس من المستغرب أن تتحول أدوار المؤسسات الأكاديمية؛ من صوامع للفكر والتفاكر والتغيير إلى امتداد وصائي وفكري للحاكم المستبد على مكونات العملية الأكاديمية ومخرجاتها. وهذا ما يفسر بأن من يستأثر بالوظائف الإدارية والأكاديمية في تلك المؤسسات هو من نفس التيار الحزبي الحاكم للبلاد، في انسجام تام مع معيار الموالاة للنظام المستبد وبعيدا عن معيار الكفاءة أو التأهيل.

إن شدة حالة الاستقطابات الداخلية في النظم الديكتاتورية العائدة والتي تعد أسوأ بكثير من البائدة لأنها انتقامية الطابع، جعلت هنالك تيارا من الأكاديميين يصنعون مواقف نكاية ومناكفة بجهات معينة بناء على تاريخ معين، وتحيزات واضحة. وشجع هذا التيار انتشار التشبيح الفكري والثقافي وتغليبه على تيار الفكر والتفاكر والجدل والتجادل، مما أشاع محتوى فكريا صادما في مواقف تلك الشخصيات الأكاديمية، يكاد لا يتماشى مع أي منطق حر أو تفكير عقلاني، وإنما يعبر عن انحيازات مطلقة ورغبة بإقصاء المخالف.

كل هذه القرارات والمواقف تعكس عمق أزمة التنشئة السياسية التي تواجهها الأجيال في الدول تحت الحكم الديكتاتوري، كذلك الدول في طور التحول الديمقراطي، وتحكم أكاديميين منحازين لصالح الديكتاتور في المؤسسات الأكاديمية سيعيد إنتاج تيار أكاديمي يحرس ويخدم الواقع الديكتاتوري، ويقتل الفكر النقدي والثوري عند الطلاب والأجيال، وهذا بحد ذاته يعيق نشوء تيار ثوري في المجتمعات تحت الاستبداد ويعرقل عملية التحول الديمقراطي في دول الثورات.

رغم ذلك فإنه في عصر سيولة المعلومة وتوفر عناصر صناعة الرأي المحايد بدون الامتثال لابتزازات النظام الديكتاتوري الحاكم، أو حتى بقاياه وخلاياه النائمة في المؤسسات الأكاديمية، ما زال بالإمكان للشباب العربي أن يصنعوا مواقفهم بعيداً عن تلك المؤثرات، ويأخذوا بزمام المبادرة الذاتية من أجل تطوير فكرهم النقدي، وإبعاد مواقفهم عن حالة الاستلاب أمام رعاة المستبدين والاستبداد من أكاديميين ومثقفين وباحثين ممن يتصرفون كرؤساء للفروع الأمنية في دول القمع والاستبداد.

في المحصلة لا بد من إثارة أسئلة حصانة المؤسسات الأكاديمية من عبث السياسة والسياسييين، وضمان استقلاليتها ضمن مجالها الاجتماعي والثقافي والسياسي، وضمان حريتها بعدم خضوعها لتحيزات سياسية أو دينية أو جنسية أو طائفية، وإبعاد الحياة الأكاديمية عن أن تصبح امتدادا للفساد المستشري في دول القمع، أو الوقوع تحت تأثير اللوبيات الضاغطة لصالح المشروع الإحلالي الاستعماري في فلسطين، لأنه لا يمكن ضمان حدوث أي تغيير يتماشى مع متطلبات المجتمعات من أجل التقدم؛ في حال سيطرت المنظومة الرجعية السياسية أو الأخلاقية أو العالمية على مخرجات المؤسسات الأكاديمية التي ينتظر منها دائما أن تقود حركة الفكر الحر والتنوير في المجتمعات.
التعليقات (0)