قضايا وآراء

الإخفاء القسري.. جريمة لا تسقط بالتقادم

إبراهيم بدوي
1300x600
1300x600
مع حلول الذكرى الثامنة لأسوأ مجزرة بشرية عرفتها مصر في تاريخها الحديث، يتبادر إلى الأذهان مشاهد القتل والحرق التي خلفها بطش الأجهزة الأمنية، ويتذكر الناس أحبة فقدوهم في لحظة فارقة من عمر مصر، غاب فيها العقل والقانون والضمير، لتكون المحصلة أكثر من ألف ضحية، وآلاف الجراحات لأسر فقدت ذويها إما بالقتل أو بالإخفاء القسري.

قد تكون مصيبة الموت عظيمة، لكن رحمة الله تتغشى القلوب وتنزل عليها بردا وسلاما بعد حين، وسرعان ما تقر النفوس وتهدأ، إلا أن الحال يختلف تماما  يتعلق الأمر بالإخفاء القسري، فأهالي المختفين يعيشون مرارة الفقد والحرمان، إضافة إلى مرارة البحث المتواصل، تائهين في المناطق الشاسعة بين اليأس والرجاء.

يسأل طفل صغير عن أبيه بشكل عفوي، فلا تملك الأم إجابة وتضطر لإخباره بأنه مسافر وسيعود قريبا، لا يقتنع الطفل بالرد فيعاود السؤال مرات ومرات، والإجابة واحدة لأن عقله الصغير لن يستوعب أن أباه "مختف قسريا". وعلى الجانب الآخر هناك أم أضناها التفكير في مصير ابنها، الذي لا تدري عنه شيئا بعدما اختطفه ملثمون من غرفة نومه، فتنهال على عقلها أسئلة من قبيل: هل هو حي أم ميت؟ وأين مكانه؟ وكيف يعيش؟ هل تعرض للتعذيب؟ هل يأكل ويشرب جيدا؟ هل هو مريض؟ وهل يتلقى العلاج المناسب؟

هذه ليست مشاهد من فيلم سينمائي بالغ كاتبه في استخدام مهاراته في الحبكة الدرامية، لتظهر حياة أبطاله بصورة مأساوية بائسة، وإنما هي أحداث يومية تعيشها عائلات مصرية تعاني مرارة فقدان أحد أفرادها، ولا تتوقف عن التفكير لحظة واحدة في مصير فلذات أكبادها وما حل بهم، ويصل التفكير ببعضهم مبلغا يتوقف معه الزمن عند أوقات معينة، فيعيش في عالم افتراضي خال من كل شيء سوى حديث الذكريات. ولا يزيل هذا الشعور القاتل إلا لطف الله، الذي ينزل على القلوب بردا وسلاما، متكئا على ما وقر بها من بقية إيمان بالقضاء والقدر، فيسكن القلب إلى حين، لكن الصراع النفسي مستمر وسرعان ما يتجدد مرات ومرات.

تعرف المادة الثانية من الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، والتي أقرتها مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، "الاختفاء القسري" بأنه الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون.

كما نصت المادة الخامسة من الاتفاقية ذاتها على: "تشكل ممارسة الاختفاء القسري العامة أو المنهجية جريمة ضد الإنسانية كما تم تعريفها في القانون الدولي المطبق، وتستتبع العواقب المنصوص عليها في ذلك القانون".

ووصفت منظمة العفو الدولية تلك الجريمة بأنها "أداة الإرهاب"، حيث يتكرر استخدام الاختفاء القسري كاستراتيجية لبث الرعب بين أفراد المجتمع. إذ لا يقتصر الشعور بانعدام الأمن والخوف الناجم عن الاختفاء القسري على أقارب الضحايا فحسب، بل يطال الأحياء والمجتمع بأكمله.

هذه التوصيفات بالطبع لا تهم أجهزة الأمن المصرية، التي دأبت على استخدام هذه الجريمة البشعة، والتوسع فيها للتنكيل بالمعارضين وإرهابهم، حتى تحولت مؤخرا إلى سياسة ممنهجة لم تعد تقتصر آثارها الخطيرة على الأفراد، وإنما امتدت لتشمل الأسر وأطياف واسعة من المجتمع.

منذ انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013 وشريحة عريضة من المصريين تعاني انتهاكات لا حصر لها، وقمع غير مسبوق، تصاعدت وتيرته شيئا فشيئا، حتى وصل إلى التصفية الجسدية المباشرة؛ في مذابح نقلت على الهواء مباشرة، كرابعة وأخواتها، وأخرى جرت في الخفاء بعيدا عن أعين الإعلام، والقاسم المشترك بينها جميعا هو استباحة الدم المصري، وهدم الثوابت، ومحو كل الخطوط الحمراء، من خلال صدمات متتالية للعقل الجمعي في مصر، جعلته مستعدا لقبول ما هو دون ذلك من جرائم، مثل الإخفاء القسري. 

يصيبني الذهول والفزع من الحالات التي أقرأ عنها حول مواطنين مغيبين في زنازين الأمن أو منسيين في أقبية السجون، لا يدري بحالهم أحد، وآخرين لا تعلم أسرهم عن مصيرهم شيئا. قصص مؤلمة قرأتها عن أسر من مختلف محافظات مصر، تبحث عن أبنائها وذويها، ولا تدروي عنهم شيئا، وكل ما تستطيع فعله هو إرسال تلغرافات إلى وزارة الداخلية، والنائب العام، وربما رفع أحدهم الأمر للقضاء، ليحصل على حكم يلزم الداخلية بالكشف عن مصير الشخص المختفي، لكن الحكم في النهاية يظل حبرا على ورق وتظل الممارسات الأمنية والانتهاكات كما هي.

أكثر ما يفزع أهالي المختفين قسرا هو تصور فقدان ذويهم عبر تصفيتهم جسديا، وهي سياسة انتهجتها السلطات الأمنية بمصر منذ الحقبة الناصرية. فقد أكد الصحفي الراحل جمال بدوي، رئيس تحرير صحيفة الوفد، أن موقع استاد القاهرة الحالي كان مقبرة جماعية للمئات من الإخوان، الذين قضوا بالتعذيب المباشر على يد زبانية السجن الحربي، قائلا: "آه لو يدري لاعبو كرة القدم الذين يلعبون الآن المباريات على أرض الاستاد الخضراء أن تحت هذه الأرضية مئات الهياكل العظيمة والجماجم والضلوع المفتتة لمصريين ماتوا من التعذيب". وهذا الأمر يؤدي إلى اضطرابات نفسية جسيمة؛ لا تتوقف حدتها مع استمرار رحلة البحث عن الحقيقة.

وتصل معاناة الأسر ذروتها إذا كان المختفي هو العائل الرئيس للأسرة، نظرا لما يتركه من فراغ لا يمكن لأحد تعويضه، إضافة إلى الإشكاليات القانونية التي تحدث بسبب تغييب الأفراد عن عائلاتهم، كموقف الزوجة المعلقة بعد اختفاء زوجها لسنوات، أو قضايا الميراث وخلافه.

لا شك أن أسر الضحايا في أمسّ الحاجة إلى مختلف أنواع الدعم، ولا سيما الدعم النفسي، لمساعدتهم على تخطي الآثار السلبية الناتجة عن الاحتجاز القسري لذويهم، وأفضل ما قد يقدم لهم - من وجهة نظري - هو إثارة هذه القضية لدى الرأي العام، وتسليط الضوء عليها، أملا في إجبار السلطات الأمنية على الإفصاح عن أماكن تواجد المختفين قسرا، والحد من هذه الجريمة مستقبلا.

بالطبع، لم أتطرق إلى ما قد يعانيه المختفون قسرا داخل السجون وأماكن الاحتجاز، وإنما تركت الأمر لخيال القارئ، فإذا كانت الانتهاكات لا تتوقف بحق مواطنين كاملي الأهلية ولديهم حقوقهم يكفلها الدستور والقانون، فما بالك بمسلوبي الإرادة وفاقدي الحقوق، الذين لم تكلف السلطات نفسها عناء الاعتراف بهم، أو حتى منحهم رقما يمكن الاستدلال به على وجودهم؟
التعليقات (0)