كتاب عربي 21

تونس.. لماذا يطلب الانقلاب رأس "مخلوف"؟

محمد هنيد
1300x600
1300x600

من بين كل أعدائه حدّد الانقلاب باكرا الرؤوس التي يستهدفها وهو استهداف يعرّي أسبابه ويفضح غاياته التي صُنع لأجلها. ككل انقلاب كان الحدث التونسي يسعى إلى تغيير نظام الحكم بالقوة المادية يوم نصّب دبابتين أمام مجلس نواب الشعب وقصر الحكومة وهما رأسا السلطة التشريعية. لكنّ عدوّه الأساسي كان البرلمان لأنه صوت الشعب المتنوّع الذي يمارس الصلاحيات التشريعية والرقابية وخاصة تلك التي تحدّ من تغوّل السلطة التنفيذية. 

كان المستهدف عناصر بعينها داخل المجلس وهي العناصر التي تمت مطاردتها منذ الأيام الأولى للانقلاب ولا تزال قيادتها مطاردة أو سجينة إلى اليوم. طارد قائد الانقلاب نواب كتلة "ائتلاف الكرامة" دون غيرهم من النواب وقدّم رئيس الكتلة النائب سيف الدين مخلوف إلى المحكمة العسكرية باتهامات واهية تستهدف معاقبته وحزبَه على الخطوط الحمر التي تجرأوا على تجاوزها. 

لماذا استهدف الانقلاب مجموعة الكرامة دون غيرها من الكتل النيابية بما فيها حركة النهضة؟ ما هو حجم الخطر الذي يمثله النائب سيف الدين مخلوف على الرئاسة وعلى الدولة؟ لكن هل في مقدور الانقلاب اجتثاث فكرة الكرامة ومشروعها؟ 

في البدء كان الائتلاف 

لم ينشأ الائتلاف إبان الثورة ولا بعدها مباشرة لكنّ جذوره وفكرته كانت هناك قبل الثورة نفسها. لا نقصد بالائتلاف الشخوص والأفراد والعناصر البشرية المكوّنة له بل نقصد به الفكرة نفسها بما هي تعبير عن سقف ثوري أعلى من كل مطالب المشهد السياسي الأخرى. 

صحيح أن الشخوص هي المعبّر عن الفكرة لكن الفكرة تجاوزت أصحابها كما ظهر من خلال نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة التي منحت كتلة الائتلاف مقاعد أكثر مما كان يتوقعه أكثر أعضائها تفاؤلا. لم يكن الائتلاف مشروعا إسلاميا ولا يساريا ولا قوميا ولا ليبراليا، بل كان خطا يتحرك من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار منتقيا أعلى مطالب الأيديولوجيات السياسية متجاوزا طوقها الضيق ومؤسسا لها في التربة التونسية. هذا المشروع كان فكريا شديد الارتباط بالهوية العربية الإسلامية التي يعاديها اليسار واللبراليون ويوظفها القوميون زورا ويخنقها الإسلاميون احتكارا. 

 

لن ينجح الانقلاب في وأد حلم الكرامة رغم حزامه القومي واليساري واللبرالي والنقابي ورغم جوقة الحقوقيين التي تبرر الانقلاب وتبارك ذبح الثورة وتلوي أعناق النصوص ليّا.

 



كان الائتلاف مجموعة من الشباب الحالم المنفلت من كل إكراهات التمثيل الحزبي والأطر الأيديولوجية والارتهان الخارجي، لذا فقد كان سقف المطالب عاليا بل عاليا جدا وهو الأمر الذي جعله التشكيلة السياسية الأكثر شعبية في ظرف وجيز جدا. لم يكتمل مشروع الائتلاف بسبب الضربة التي تلقاها عقب الانقلاب لكن كل التوقعات كانت تشير إلى قدرته على اكتساح الساحة السياسية على المديين المتوسط والقريب وهو الأمر الذي ساهم في التعجيل بالإطاحة به.

لم يكن الائتلافيون يَعون أنهم يملؤون الخانة الأخطر في البناء السياسي التونسي وهي الخانة التي عجز الجميع قبلهم عن ملئها وخاصة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية أو حزب التيار الديمقراطي أو غيرها من الأحزاب اللبرالية والديمقراطية. ثم إن التركيبة العُمُرية لنواب الكرامة بخلاف تركيبة الأحزاب التونسية الأخرى جعلتهم أقرب إلى روح الثورة من جهة وأبعد عن حسابات النخب القديمة وعلاقتها بالدولة العميقة. 

الخطوط الحمر

لم يكن لنوّاب الكرامة سقف سياسي بل خاضوا في ما اعتبروه شروطا أساسية للسيادة الوطنية التي عبروا عنها بكل صراحة داخل البرلمان وخارجه. كانت مسألة الثروات الوطنية وفصل السلطات وتكريس الحقوق والحريات الفردية والجماعية نقط الارتكاز الأساسية في خطابهم وقد عبّر عنها نوابهم في مداخلات مدوّية تحت قبّة البرلمان.
 
كانت الحرب على الفساد والظلم أهمّ المحاور التي اشتغلت عليها مجموعة الكرامة وهما المحوران اللذان جلبا لها كل المتاعب. يحاكم اليوم رئيس الكتلة الأستاذ "سيف الدين مخلوف" المحامي والنائب بسبب ما سُمّي زورا من قبل إعلام العار التونسي "غزوة المطار" وهي الحادثة التي أنجد فيها النائب وزملاؤه مواطنة بسبب منعها ظلما من السفر.
 
خاض النواب حربا شرسة ضد القرارات الأمنية التعسفية وعلى رأسها ما سُمّيَ بإجراء S17 المانع من السفر والتنقل بسبب أو دون سبب. كما حاربوا فلول الاستئصال الذين بالغوا في استهداف المدارس القرآنية وكل الأنشطة التي لها علاقة بالدين أو بالهوية وكانت الخلفية الحقوقية لنواب الائتلاف دافعا وأداة لتفعيل الشعارات التي رفعتها الجماعة على الأرض وفي أروقة المحاكم. 

كان ملف الثروات الباطنية أحد الملفات الحارقة التي أرّقت منظومات العصابات. إنها أخطر الملفات التونسية المتعلقة بسيادة الدولة على ثرواتها وقد نجحت أبواق الثورة المضادة في شيطنة كل من يتحدث في هذا الملف أو يثيره. وهو الأمر الذي انسحب على ائتلاف الكرامة الذي خاض في المحرمات المتعلقة بحقيقة استقلال البلاد فنال من حملات الشيطنة ما لم ينله غيره من الأحزاب.
 
كما استقبل نواب الكرامة مُمثِلين عن حركة المقاومة الفلسطينية الذين رفض قائد الانقلاب استقبالهم في قصر قرطاج وهو الأمر الذي أجج مشاعر الغيظ من هذا المكوّن السياسي الموغل في المصادمة النظام الرسمي العربي.

التنكيل والتنكيل المضاعف 

اليوم يقترب النائب سيف الدين مخلوف من أسبوعه الأول في إضراب الجوع الوحشي الذي قرر قيام به باعتباره آخر الأسلحة التي بحوزته أمام تنكيل الانقلاب وتهديد سلامته الجسدية والعائلية داخل السجن وخارجه. لا يتعلق الأمر فقط بالمحاكمة العسكرية لمحام مدني في خرق واضح للقانون والدستور وتلاعب بصلاحيات المؤسسة العسكرية بل يتعلق أساسا بمحاولة الاغتيال المعنوية والجسدية للنائب الثائر ولمشروعه. 

لكن اللافت في مصير جماعة الكرامة أنْ قلّ نصيرهم سواء بين نواب البرلمان من زملائهم أو بين سلك المحامين الذي ينتمي إليه أغلب نواب الائتلاف أو حتى بين أصحاب دكاكين حقوق الإنسان. عزلة الائتلاف هي في الحقيقة عزلة لما بقي من نفَس الثورة بعد أن أدمت خناجر النقابات والعصابات وإعلام العار ومجاميع الفساد خاصرة المسار. 

أقصى ما يستطيعه الانقلاب هو تأخير الخروج من النفق وخنق مسارات الحرية لكنه سيدفع الثمن باهظا يوم تسقط شروط إمكانه وتمدّده لأنه لقّن الثورة أعظم دروسها ومكّن الثوار من تبيّن توحّش أعدائهم وخيانة الناطقين باسمهم.

 


إيغالا منه في التنكيل بالنواب قطع عنهم قائد الانقلاب جراياتهم ومرتباتهم بل وصل به الأمر إلى منع الدواء عن نائبة مستقلة تعاني من مرض السرطان. كان الانقلاب قبلها قد داهم منازلهم وأرهب ذويهم وبالغ في إلحاق الأذى بالصفوة منهم وهم لا يزالون بين سجين ومطارد ولاجئ. 

أمام صمت زملائهم النواب وزملائهم المحامين والقضاة وأمام تنكّر السواد الأعظم من النخب التونسية بما فيهم حركة النهضة المحسوبين عليها لتضحيات الائتلافيين يكون هذا التيار قد رسم الحدود الفاصلة بين السياسي والتاجر في مسار الثورة التونسية.

قد يستطيع قائد الانقلاب وجماعته التنكيل بأعدائهم وإرهاب ذويهم واستعادة الممارسات القمعية الإجرامية جميعها مثل ما فعلت الدولة العميقة مع المحامي " محمد شريف الجبالي " الذي وقع تسميمه بالمواد المشعّة بسبب فضحه لرؤوس العصابة في تونس لكنها ستكون حتما عاجزة عن اغتيال فكرة الكرامة ومشروعها. 

لن يستطيع الانقلاب اغتيال مشروع التحرر الوطني الذي وصل به الائتلاف إلى سقفه الأعلى رغم عدم اكتمال أنساقه التعبيرية مشروعا سياسيا متكاملا. لن ينجح الانقلاب في وأد حلم الكرامة رغم حزامه القومي واليساري واللبرالي والنقابي ورغم جوقة الحقوقيين التي تبرر الانقلاب وتبارك ذبح الثورة وتلوي أعناق النصوص ليّا. 

أقصى ما يستطيعه الانقلاب هو تأخير الخروج من النفق وخنق مسارات الحرية لكنه سيدفع الثمن باهظا يوم تسقط شروط إمكانه وتمدّده لأنه لقّن الثورة أعظم دروسها ومكّن الثوار من تبيّن توحّش أعدائهم وخيانة الناطقين باسمهم. الثورة مسارات ومطبات وانتكاسات ونجاحات لكنها رغم كل انكساراتها فإنها تتعلّم ذاتيا وتُصحح اتجاهاتها آليا بشكل ستكون معه قادرة على التجدد بنسق أكثر نضجا وصرامة وحزما وأقلّ قابلية للانتكاس والانقلاب. 


التعليقات (4)
الشيخ
الجمعة، 22-10-2021 03:45 ص
الطرف الاخر لديه كل شيء تقريبا و إئتلاف الكرامة لديه الله رب العالمين والذي سينصره عاجلا او اجلا لأن حبل الظلم قصير. وبارك الله فيك يا دكتور
ناصحو امتهم
الخميس، 21-10-2021 08:04 م
أولا/ مبدأنا في الانصاف (...وذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى... 52 الأنعام) يدعو لعدم تجاهل أناس مبدئيين آخرين على قلتهم كانوا ولا يزالون على نفس مستوى مبدئية مجموعة الكرامة و هم ثلة النائب ياسين العياري الذي كان سباقا في فضح الفساد قبل مجيء سعيد للرئاسة و ربما باكثر رصانة من جماعة الكرامة. و لحظة الانقلاب كان سابقا في توصيف قرارت سعيد بالانقلاب واهم من ذلك في نشره علنا لأدلة ارتباط الحدث برؤوس التخريب في الوطن العربي فكان من اوائل من اعتقل بطريقة وحشية واهين باسلوب ممنهج خلال مدة سجنه. ثانيا/ اثبت المنقلب انه صاحب عقل صغير و صدر ضيق؛ ذلك ان المتأمل في كل الاعتقالات التي امر بها و الحجج التي يقدمه في خطبه والاجراءات التي اتخذها يجدها انتصارات شخصية لذاته لا أكثر؛ أي ردود فعل على افعال سياسية لفاعلين سياسيين مخالفين له. و هكذا هو دوما تصرف الغرباء عن العمل الجماعي المنظم حين يجدون انفسهم فجأة على راس اي تنتظيم جماعي (نظام حكم لدولة، شركة، حزب ، منظمة...).
عماد
الخميس، 21-10-2021 03:12 م
جيد مقالك واعلق : تقول في مقالك :" ان المستهدف عناصر بعينها داخل المجلس وهي العناصر التي تمت مطاردتها منذ الأيام الأولى للانقلاب ولا تزال قيادتها مطاردة أو سجينة إلى اليوم. طارد قائد الانقلاب نواب كتلة "ائتلاف الكرامة" دون غيرهم من النواب " هناك عمر آخر. ألا وهو مطالبة نائب من نواب هذا الحزب فرنسا بالإعتذار من تونس لسنوات الإستعمار . وانتقد هذا النائب في إذاعتين فرنسيتين ل"تطرفه". من خلال هذا التصرف يتبين الأيادي التي تقف وراء الإنقلاب . هذا ما نددت به وجعلني استقيل من منضمة العفو الدولية لمكيالها بمكيالين غريبين لا تندد بتصرفات دولتها !
مقال ابلغ ما قيل موضوعيا
الخميس، 21-10-2021 10:44 ص
تحليل في الصميم الكرامة مشروع وطني حقيقي تخشاه جميع التيارات السياسية وهو التهديد الحقيقي لحركة النهضة و البديل الشعبي المنتظر لها بعد ان خانت ثورة الشعب و تحالفت مع الثورة المضادة للنجاة بجلدها و هي تفاوض الديكتاتور للنجاة و مستعدة للقبول بالفتات مقابل تلميع صورة القذافي في نسخته التونسية اللهم فك اسر اسد الحرية ابن مخلوف واجعله سيفا لدين الاسلام