قضايا وآراء

تونس وسيناريوهات المرحلة المقبلة

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
بمديونية بلغت 112 مليار دينار تونسي هذه السنة (أكثر من 41 مليار دولار أمريكي)، وبميزانية تنص على عجز متوقع بثمانية مليارات دينار - أي أكثر من 7 في المائة من إجمالي الناتج المحلي - دخلت تونس منذ 25 تموز/ يوليو "حالة استثناءٍ" كانت في تقدير أنصار "تصحيح المسار" خطوة ضرورية لإنقاذ البلاد من الفوضى البرلمانية والفسادين الحزبي والبرلماني، ولكنها كانت في نظر خصوم الرئيس انقلابا صريحا على الدستور ومغامرة سياسية لن تنجح - رغم كل وعودها وادعاءاتها - إلا في الدفع بالبلاد نحو حافة الإفلاس، بل نحو الاحتراب بين الأهالي بحكم خطابها التخويني الصدامي المكرس للانقسام الاجتماعي، والقائم على منطق البديل لا على منطق الشراكة حتى مع مكونات "حزام الإجراءات" قبل غيرهم.

مهما كان توصيفنا لإجراءات الرئيس يوم 25 تموز/ يوليو الماضي، ومهما كان تقييمنا لدور الرئيس و"حزامه البرلماني" (حركة الشعب وحزب التيار الديمقراطي) وحلفائه الموضوعيين (الحزب الدستوري الحر وزعيمته عبير موسي) في تعفين المشهد السياسي والدفع به نحو الأزمة الأخطر في سلسلة أزماته الدورية منذ الثورة، فإن المزاج العام للمواطنين قد أصبح مستعدا - لأسباب مشروعة وأسباب أخرى تتعلق بالتزييف الإعلامي المُمنهج - لقبول تلك الإجراءات القائمة على تأويل متنازع فيه للفصل 80 من الدستور التونسي، ولكنه تأويل منح بارقة أمل لفئات عريضة من التونسيين سواء أكانوا من النخب أم من عامة الناس.
كانت الإجراءات الرئاسية نقطة تجميع لانتظارات متباينة "أسقطت" على تصحيح المسار مصالحها المادية والرّمزية، ورأت في "حالة الاستثناء" فرصة ذهبية لتحقق ما عجزت عن تحقيقه في مسار الانتقال الديمقراطي العادي

لقد كانت الإجراءات الرئاسية نقطة تجميع لانتظارات متباينة "أسقطت" على تصحيح المسار مصالحها المادية والرّمزية، ورأت في "حالة الاستثناء" فرصة ذهبية لتحقق ما عجزت عن تحقيقه في مسار الانتقال الديمقراطي العادي. ولو أردنا معرفة المستفيدين من الإجراءات - أو الذين توهموا أنهم سيستفيدون منها - فإننا نستطيع بصورة إجمالية أن نحصرهم في الأطراف التالية:

- العديد من الفئات الشعبية التي كرهت النخب الحزبية والكتل البرلمانية لأسباب تتعلق بفشل تلك النخب في تحقيق ما وعدت به خلال الحملات الانتخابية في المستوى الاقتصادي (تحسين المقدرة الشرائية، الحد من التضخم وانهيار قيمة الدينار، مواجهة البطالة، مكافحة الفساد، حل أزمة المؤسسات الخاصة.. الخ).

- النواة الصلبة للقاعدة الانتخابية للرئيس، وهم أولئك الذين اختاروا التصويت له في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية بناء على اقتناع بشخصه وبمشروعه السياسي القائم على القول بنهاية الديمقراطية التمثيلية وانتفاء الحاجة لأجسامها الوسيطة (خاصة الأحزاب) في الديمقراطية المجالسية (وهي أطروحة سياسية يسارية مثل الشيوعية والاشتراكية).

- أغلب أحزاب "العائلة الديمقراطية"، سواء تلك التي تنتمي للمنظومة القديمة بأفكارها ورموزها أو تلك التي تدعي الانتماء للثورة، وهي في مجملها أحزاب استصحبت صراعات ما قبل 25 تموز/ يوليو لتحدد موقفها من الإجراءات الرئاسية. وقد ساندت هذه الأحزابُ الرئيسَ قبل الخامس والعشرين مساندة قصدية (التيار وحركة الشعب بطرحهما فكرة "حكومة الرئيس" والتحريض على تفعيل الفصل 80 من الدستور)، أو خدمت مشروعه السياسي بصورة غير قصدية (الحزب الدستوري الحر بترذيله للبرلمان وإفساد أشغاله واستهداف حركة النهضة عبر العديد من اللوائح البرلمانية).

- أغلب مكوّنات المجتمع المدني والمنابر الإعلامية إضافة إلى المركزية النقابية. وهي أطراف كانت قبل الإجراءات الرئاسية في خدمة المنظومة القديمة، أو على الأقل متقاطعة معها في أكثر من مناسبة، كما كانت أدوات تعطيل متعمد لمسار الانتقال الديمقراطي ولتفعيل مخرجاته رغم هشاشتها. وقد كانت هذه الأطراف قبل 25 تموز/ يوليو تتقاطع مع الرئيس في الموقف من حركة النهضة وائتلاف الكرامة في المستوى المحلي، كما تتقاطع معه في مستوى التحالف الإقليمي (موقف إيجابي من الدور الفرنسي ومن محور الثورات المضادة بقيادة الإمارات والسعودية، وموقف سلبي من تركيا وقطر والحكومة الشرعية في طرابلس).
غالبية الشعب التونسي كانت تنتظر تغيرات ملموسة في المستوى المعيشي، وإجراءات جادة في مكافحة الفساد بعيدا عن التسييس والانتقائية، ولم تكن تنتظر تغيير وجهة "حالة الاستثناء" لتصبح "مرحلة مؤقتة" تمهد لتعديل الدستور وتغيير النظام السياسي بمنطق "الغلبة" وفرض الأمر الواقع

رغم اتساع رقعة المساندة الأولية للرئيس، فإنها كانت تحمل بين طياتها بذور تفتتها بحكم اتساع الهوّة بين انتظارات مكوّناتها من الإجراءات. فغالبية الشعب التونسي كانت تنتظر تغيرات ملموسة في المستوى المعيشي، وإجراءات جادة في مكافحة الفساد بعيدا عن التسييس والانتقائية، ولم تكن تنتظر تغيير وجهة "حالة الاستثناء" لتصبح "مرحلة مؤقتة" تمهد لتعديل الدستور وتغيير النظام السياسي بمنطق "الغلبة" وفرض الأمر الواقع.

أما الحزام السياسي والنقابي والإعلامي والمدني للإجراءات - من خارج النواة الصلبة لمشروع الرئيس - فكان ينتظر تعديل المشهد السياسي "على مقاسه" وإدارة حالة الاستثناء وما بعدها بمنطق الشراكة بعد إقصاء "العدو المشترك" (أي حركة النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس)، ولم يكن - بحكم بؤس عقله السياسي - ينتظر أن يمضيَ الرئيس بمشروعه إلى الأقصى ليتحولوا هم أنفسهم إلى ضحية من ضحايا الإجراءات (رفض الرئيس وضع أي خارطة طريق وأي حوار وطني "مزيف" مع الأحزاب ومع المجتمع المدني والمركزية النقابية).

بعد ثلاثة أشهر من إعلان "حالة الاستثناء"، يبدو أن "تصحيح المسار" قد خسر أغلب من ناصروه يوم 25 تموز/ يوليو لأسباب لا تتعلق بانقلاب الإجراءات الرئاسية على الدستور منذ ذلك التاريخ، بقدر ما تتعلق بانقلاب "المراسيم" على انتظارات أغلب مكوّنات الحزام الداعم للرئيس، خاصة بعد 22 أيلول/ سبتمبر (صدور المرسوم 117)، وبعد أن أظهر الرئيس بلا لبس أنه ماض في مشروعه دون توافقات أو تسويات أو حوار وطني إلا مع "الشعب التونسي" ومع "الشباب" دون مشاركة الأحزاب والمركزية النقابية والمجتمع المدني، أي دون الأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية.

إنّ ضبابية المشهد التونسي لا ترتبط فقط بصعوبة أن تتجمع "المعارضات" المتعددة للرئيس في كتلة معارضة واحدة - على الأقل في المستوى المنظور - بل ترتبط أيضا بموازين القوة التي ما زالت تميل لصالح الرئيس. فما خسره الرئيس في مستوى "حزام الإجراءات" أو في مستوى المشروعية (غياب الإنجاز في ملف مكافحة الفساد رغم تضخيم بعض الملفات الهامشية والانتقائية التي لا تمس النواة الصلبة لمنظومة الفساد)؛ ربحه في مستوى القوة الصلبة (السيطرة على المؤسسات الحاملة للسلاح) وفي مستوى السيطرة على أدوات القمع الأيديولوجي (الإعلام العمومي والخاص) بتوظيف "الهايكا" رغم انتهاء المدة النيابية لأعضائها منذ 2019.

ولعل الورقة الأهم عند الرئيس هي في أوراق التفاوض مع القوى الإقليمية أو الدولية الرافضة لإجراءاته بصورة غير مؤثرة واقعيا على المشهد التونسي. فالجهات المانحة (خاصة أمريكا والاتحاد الأوروبي) لا تأبه كثيرا إلا بضمان مصالحها وبقدرة تونس على تسديد ديونها، وستقبل بأي نظام سياسي - ولو كان ديمقراطية صورية هي أقرب إلى النظام الاستبدادي - إذا ضمنت أنه لن يتحول إلى "دولة مارقة" أو إلى مشروع للاحتراب الأهلي، وستدعمه واقعيا – مع مواصلة نقده صوريا - ما دام قابلا للقيام بدوره في حماية مصالحها الاقتصادية والجيواستراتيجية. وهو ما يعني أن هذه القوى قد تدعم تواصل "حالة الاستثناء" أو حتى بتحويلها إلى مرحلة انتقالية لتغيير الدستور والنظام السياسي إذا ما قبل الرئيس بشروطها: القيام بالإصلاحات اللازمة لتسديد الديون، أي فرض إملاءات الجهات المانحة بما يملكه من "مراسيم" غير قابلة للطعن (رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات، التفويت في بعض المنشآت العمومية، التخفيف من حجم المصروفات العمومية بتقليل عدد الموظفين.. الخ).
مستقبل الحياة السياسية في تونس ستحدده خيارات الفاعلين الأساسيين، سواء أكانوا في الحكم أم في المعارضة. فقبول الرئيس بتمرير "الإملاءات" الخارجية سيدفع بالقوى الدولية إلى إعطاء الضوء الأخضر للإمارات والسعودية لدعمه وضمان بقائه في السلطة، رغم اتساع رقعة المعارضة. ولكنّ رفضه لأداء هذا الدور سيعني واقعيا فقدانه لعلة وجوده ذاتها من منظور القوى الدولية

ختاما، فإن مستقبل الحياة السياسية في تونس (هذا البلد الفاقد لمقومات السيادة ولأي مشروع وطني حقيقي) ستحدده خيارات الفاعلين الأساسيين، سواء أكانوا في الحكم أم في المعارضة. فقبول الرئيس بتمرير "الإملاءات" الخارجية سيدفع بالقوى الدولية إلى إعطاء الضوء الأخضر للإمارات والسعودية لدعمه وضمان بقائه في السلطة، رغم اتساع رقعة المعارضة. ولكنّ رفضه لأداء هذا الدور سيعني واقعيا فقدانه لعلة وجوده ذاتها من منظور القوى الدولية (أي إمكانية فرض "الإصلاحات الكبرى" باستغلال شعبيته وتمركز السلطة بين يديه مع تشتت المعارضات المختلفة لإجراءاته)، وستسعى تلك القوى الدولية إلى إعادة هندسة المشهد التونسي بعد استبعاد الرئيس من مركز السلطة.

أما "المعارضات" التي تواجه مشروع الرئيس فإنها ليست على قلب رجل واحد، ولا يبدو أن وعيها بالخطر الوجودي الذي يهددها جميعا في حال نجاح الرئيس؛ سيدفع بها في المدى المنظور إلى تشكيل جبهة وطنية لمقاومة مشروع الديمقراطية المجالسية. فمعارضة 25 تموز/ يوليو ما زالت لا تمتلك أي مشروع سياسي ناضج يتجاوز جدليا آفات ما قبل ذلك التاريخ وما بعده.

وفي ما يخص معارضة 22 أيلول/ سبتمبر ومعارضة المركزية النقابية، فإنها ما زالت تخشى أن يذهب خراج معارضتها إلى خزائن النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس. وهو ما يعني أنها قد تميل إلى مواصلة الضغط على الرئيس لضمان موقع لها في أية تسويات سياسية قادمة، دون التفكير في إعلان القطيعة المطلقة مع الرئيس، خاصة إذا ما تراجع هذا الأخير عن جزء من مشروعه السياسي واكتفى بالسقف المشترك مع ممثلي المنظومة القديمة وحزامها "الثوري": إرساء النظام الرئاسي مع إقصاء حركة النهضة والائتلاف وقلب تونس والقبول بباقي مكونات المشهد الحزبي - بمن فيهم ممثلو المنظومة القديمة - في ظل الديمقراطية التمثيلية.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (1)
سليم
الجمعة، 29-10-2021 10:36 م
كلام واقعي جدا...ليته لا يكون صحيحا...