تقارير

كيف ساهم الأدب في رسم الهوية الفلسطينية؟ خبراء يجيبون

الأدب كان سلاح النخبة في الحفاظ على الهوية الفلسطينية
الأدب كان سلاح النخبة في الحفاظ على الهوية الفلسطينية

لعب الأدب الفلسطيني دورا مهما بمساراته المتعددة في الحفاظ على الثقافة الفلسطينية وتعزيز الانتماء الوطني وإثبات الهوية الفلسطينية، كما سعى الأدب إلى الارتقاء بالمجتمع الفلسطيني وبناء القيم والأخلاق النبيلة على مدار تاريخه رغم كل محاولات الاحتلال لطمس هذه الهوية بطرق شتى.

وتهتم الشعوب بإبراز مكوناتها الثقافية والأدبية والحضارية والتراثية، لأنها جزء أساسي من بناء هويتها الوطنية، والشعب الفلسطيني مثل باقي الشعوب، بل أكثر من كل الشعوب اهتماماً في بلورة هويته الوطنية ومكوناتها الحضارية والثقافية وذلك لكونه تحت الاحتلال.

وتحول الأديب والمفكر الفلسطيني إلى مقاوم يحمل القلم ويدافع عن قضيته وشعبه مثلما المقاتل في الميدان وأصبح مطاردا ومطلوبا لقوات الاحتلال التي اغتالت عددا منهم لعلمها بخطورة هذه القامات على مشروعها الاستيطاني.

ولاحق الاحتلال الرواية الفلسطينية التي كانت أحد أسلحة هذا الأدب للدفاع عن الهوية الفلسطينية لاسيما بعد نكبة عام 1948م وما عرفت بالرواية "الجنينية".

وقال الباحث والكاتب ناهض زقوت: "نكبة عام 1948م التي تعرض لها الشعب الفلسطيني بتهجيره واقتلاعه من أرضه شملت كل جوانب حياته، وبدلت استقراره إلى هجرة ومنافي، كان لدى الفلسطينيين الإصرار والتحدي على إثبات هويتهم وجذورهم في المكان، أمام الرواية الزائفة التي يروجها العدو الإسرائيلي، لذلك اهتم الكتاب ومؤرخو الأدب في البحث عن الجذور في التراث الثقافي ـ الأدبي الفلسطيني قبل عام النكبة".

وأوضح زقوت في حديث لـ "عربي21" أن مجال الرواية من أكثر الحقول الأدبية كانت اهتماماً ودراسة، لما تحمله من فضاء أوسع في تناول الحياة الاجتماعية ومكوناتها.

 



وأشار إلى أن وجود 33 رواية نشرت قبل عام 1948، تحديداً منذ عام 1885م وحتى عام 1947م، مستعرضا مراحل الرواية الفلسطينية وقسمها إلى خمس مراحل، مشيرا إلى أن رحلة الرواية العربية الفلسطينية تعد في الزمان رحلة طويلة، تزيد على المائة وأربعين عاماً.

وأوضح أن المتتبع للأدب العربي الفلسطيني منذ صدور البدايات الجنينية الأولى للرواية عام 1885م، وتبلورها بشكل جاد في عام 1920م بصدور رواية "الوارث" لخليل بيدس، وحتى آخر رواية صدرت في عام 2020، أي ما يزيد على التسعمائة رواية فلسطينية؛ يستطيع أن يلمس بوضوح تجارب هذا الأدب الروائي مع التحديات الكبرى التي فرضتها التراكمات السياسية والاجتماعية التي مرت بها القضية الفلسطينية، ومرافقتها لمسيرة هذا الشعب وتفاعلها معه في حركة النضال الوطني ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية، وصولا إلى الكفاح والنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي.

وواكبت الرواية بحسب زقوت مسيرة الشعب الفلسطيني في بلدان المنفى والشتات، ورصدت أحوال اللاجئين والمتغيرات التي واكبت حياتهم في المخيمات، بالإضافة إلى رصدها لمتغيرات الواقع الاجتماعي بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994.

وقال: "اختطت الرواية الفلسطينية لنفسها مساراً واضحاً يقوم بدور كبير في تعميق الإحساس بالقضية الفلسطينية وبلورة الهوية والانتماء لدى الشعب الفلسطيني. لذلك مرت الرواية الفلسطينية بعدة مراحل تاريخية ارتبطت بالقضية الفلسطينية نفسها، وإن تداخلت فيها التيارات الأدبية من الكلاسيكية إلى الرومانسية وصولاً إلى الواقعية، والتجريب الحداثي، التي تعبر عن تطور الرواية فنياً".

وأضاف: "تمثل الرواية العربية الفلسطينية فضاءً مكانياً مغايراً لفضاءات المكان في الرواية العربية، حيث إن الرواية العربية قارة في مكان جغرافي محدد، أما الرواية الفلسطينية فمكانها الجغرافي غير قار، ولكنه محدد على خريطة ممتدة على مساحة الوطن العربي، وإن كنا غير مبالغين على مساحة العالم كله، بمعنى أن مكانها متعدد ومتغير بحسب الظروف والأوضاع والأحوال التي يعيشها الكاتب الفلسطيني".

وأوضح زقوت أن النكبة الفلسطينية عام 1948 خلفت حالة فريدة في التاريخ الإنساني، وهي حالة الارتحال القسري لشعب كان مستقراً في مكانه، وقاراً في بقعة جغرافية محددة على الخريطة باسم فلسطين. 

وقال: "بعد النكبة، غابت فلسطين من الجغرافيا، ولكنها لم تغب من التاريخ والإبداع. إذ تحول الشعب الفلسطيني من شعب مستقر إلى شعب لاجئ يحمل تاريخه في كل مكان استقر فيه". 

وأضاف: "إذا كانت كل أشكال الحياة تغيرت بالنسبة إليه، فمن الطبيعي أن تتغير أماكن إبداعاته الأدبية والثقافية، حيث لم تعد فلسطين وحدها هي مكانه الجغرافي لنشر إبداعاته، بل أصبحت أماكن استقراره هي مركز النشر والإبداع، فأصبحت عمان، وبيروت، وبغداد، ودمشق، والقاهرة، وطرابلس، هذا على مستوى المكان العربي، أما على مستوى المكان الغربي فنجد: لندن، وباريس، والولايات المتحدة، واستراليا، والمجر، وأمريكا الجنوبية".

ومن جهتها قالت الكاتبة والأديبة الفلسطينية ديانا الشناوي: "الأديب الفلسطيني هو جزء من شعبه ويحمل هموم مجتمعه والكاتب هو ابن بيئته حيث إن القضية الفلسطينية تسكن في داخل كل إنسان فلسطيني.. مهما تغيرت الظروف أو تغير مكان السكن يبقى الفلسطيني أينما وجد هو حامل لرسالة عظيمة يعبر عنها بكل الطرق لا سيما الكتابة".

 

                           ديانا الشناوي.. كاتبة وأديبة فلسطينية

وأضافت الشناوي لـ "عربي21"، أن "الكتابة هي نضال من نوع آخر حيث إن الكاتب يوثق ويحلم ويبني أفكارا كي تبقى وتغير وتنبه الأجيال لما كان ولما سيكون، فنصبح جسدا واحدا على مر الأزمان، كل منا يكمل الآخر، فنتعرف عن طريق الروايات والقصص عن حكايات الأجداد والظروف التي مروا بها، فتصبح الكتابة جسرا بيننا وبينهم، هم يحلمون ونحن سنبقى نسعى لتحقيق الحلم الأكبر باسترجاع أرضنا".
واعتبرت الأدب الفلسطيني أدبا منتميا بالدرجة الأولى فلا تكاد تخلو رواية من الحديث عن الهوية الفلسطينية وكيفية الحفاظ عليها وهذا نوع من الصمود.

وقالت: "الرواية هي توثق الزمان والمكان والحالة النفسية من خلال شخوص يختارها الكاتب، وبهذا تبقى الذاكرة نشطة من خلال كتابة رواية في مرحلة معينة، فيستطيع الباحث أن يلجأ للروايات يستنبط منها واقع الحياة في زمن معين".

وأضافت: "كانت الرواية وسيلة الاتصال بيننا وبين العالم للتعبير عن واقع ومعاناة الشعب الفلسطيني وقد ترجمت الرواية للعديد من اللغات وبهذا استطاع الروائي الفلسطيني أن ينشر تفاصيل وواقع المعاناة اليومية للمواطن الفلسطيني تحت الاحتلال".

وشددت على أن الأدب الفلسطيني لعب دورا مهما في توثيق التراث الفلسطيني وحق الفلسطينيين في أرضهم في ظل محاولات الاحتلال طمس الهوية والتراث ونسب كل ما على الأرض له.

وقالت: "حصد الأديب الفلسطيني العديد من الجوائز العربية والعالمية في الأدب وانتشار الرواية التي تتحدث عن واقع وماضي وآمال الفلسطيني أينما كان.. هو جزء من الدور الذي تقوم به للحفاظ على الهوية".

وأضافت: "للروايات الأوائل (الجنينية) دور كبير في الحفاظ على الهوية حيث إن الأدباء وقتها مثل غسان كنفاني عاشوا في فلسطين التاريخية قبل النكبة وعاصروا النكبة وويلاتها وذاقوا مرارة الهجرة والعيش في مخيمات الشتات، ومن هنا كانت ذاكرة المكان واضحة وجلية".

وأشارت إلى أن الأدباء كانوا يدعون للمقاومة المسلحة لاسترجاع الأرض من خلال رواياتهم والشاهد على ذلك رواية "ما تبقى لكم" لغسان كنفاني.

وقالت الشناوي: "نجد أن الكاتب الفلسطيني يمتلك لغته الخاصة التي تعبر عن هويته وجذوره فهو يناضل بالكلمة ويزرع في النفوس القيم ويحث على استنهاض الهمم من أجل المقاومة المستمرة".

وأضافت: "تعتبر روايات غسان كنفاني هي أولى الروايات التي استلهمها من الواقع ومن التجارب التي عايشها ورواية (رجال في الشمس) من أوائل الروايات التي تعبر عن هوية الفلسطيني ومتاعبه".

وتطرقت إلى ملاحقة الاحتلال لهذه الرواية ومصادرتها ومنع نشرها، مؤكدة أنه على مدار الزمن والاحتلال يطارد المبدع الفلسطيني ويتم اغتياله مثل غسان كنفاني وناجي العلي وماجد أبو شرار ووائل زعيتر وآخرين.

وقالت: "كان الاحتلال يصادر أي مسودة رواية يحصل عليها ويقوم باعتقال الكاتب، ويمنع الندوات الثقافية والمسرح في محاولة لتجهيل المواطن الفلسطيني وتغييبه عن الوعي، حتى إن الكثير من الكتاب اضطروا لاستخدام أسماء مستعارة ليأمنوا بطش المحتل وليستطيعوا الكتابة بحرية". 

وأضافت: "الاحتلال يعلم جيدا أن الكلمة أقوى من السلاح فبداية الثورة كلمة وبداية الحرب والسلام كلمة، كما أن الروايات الفلسطينية بالمجمل تتحدث دائما عن الهم الفلسطيني وحق الفلسطيني في الأرض المسلوبة وتدحض الرواية الإسرائيلية بأن أرض فلسطين بلا شعب".

وتابعت: "عندما نتابع الروايات التي تتكلم عن تراثنا وموروثنا الثقافي وعن قصص الهجرة من بلادنا ومعاناتنا في المخيمات وتشتتنا حول العالم فنجد أن الاحتلال يسعى دائما لطمس هويتنا ووجودنا، ونحن نحارب بكل الطرق لإثبات حقنا المسلوب وإحدى تلك الطرق هي الرواية، ولكن المميز بها هو أنها تبقى وتنتشر في مساحات كبيرة فيكون لها مفعول سحري ودائم مهما مرت السنين وهي التي تناقش العقل وتأسر العاطفة وتنشر الوعي والثقافة والاحتلال ينشط لتغييب المجتمعات الفلسطينية، وهي تخبرنا بأن من له ماض له حاضر وسيكون لنا المستقبل".

ومن جهته أكد أحمد البسيوني رئيس مركز شمس الإبداع الثقافي، ورئيس الاتحاد الدولي للكتاب العرب ـ مكتب فلسطين، أن الأدب الفلسطيني لعب دورا مهما بمساراته المتعددة في الحفاظ على الثقافة الفلسطينية وتعزيز الانتماء الوطني وإثبات الهوية الفلسطينية كما أن الأدب سعى للارتقاء بالمجتمع الفلسطيني وبناء القيم والأخلاق النبيلة.

 

                       أحمد البسيوني.. رئيس مركز شمس الإبداع الثقافي

وقال البسيوني لـ "عربي21": "لقد عزز الأدب تمسك الفلسطيني بقضاياه وبحقوقه المشروعة في حقه في إقامة الدولة وتقرير المصير وبناء حضارته وزرع الثقة بين الشعب الفلسطيني وقيادته".

وشدد على أن الرواية في الأدب الفلسطيني شغلت أهمية كبيرة في الحفاظ على الموروث الثقافي والحفاظ على الهوية الفلسطينية، وسجلت الهوية الفلسطينية بمعالمها التاريخية وحقيقتها التي يسعى الاحتلال دوما إلى تزويرها وتزوير التاريخ الفلسطيني ونسبه له من خلال التزوير وطمس الثقافة الوطنية كي لا يكون هناك تاريخ ولا ذاكرة ولا ثقافة للشعب الفلسطيني.

وقال: "الرواية الفلسطينية التي سجلت الهوية الفلسطينية وحفظتها وسجلت الأحداث والوقائع والظروف التي مر بها الشعب الفلسطيني والتاريخ الذي يسعى الاحتلال إلى تحريفه كانت كفيلة بحفظ الهوية الفلسطينية، فقد سجلت الرواية تاريخ النكبة التي مر بها الشعب الفلسطيني والأحداث الدامية والمجازر البشعة التي قام بها الاحتلال الإسرائيلي، وقد سجلت الرواية الفلسطينية المكان بكل أبعاده.. فقد سجلت المدن والقرى التي هجر سكانها منها وطردوا من بيوتهم"..

وأشارت الرواية حسب البسيوني إلى مخيمات اللاجئين وإلى حق العودة وسجلت الحياة الصعبة التي عاشها اللاجئون في مخيمات اللجوء، كما أنها سجلت المحطات التاريخية والأحداث والانتفاضة، وعملت على توحيد الجهد الفلسطيني وعززت مفهوم وحدة العمل الوطني ودعت إليه باعتباره الطريق الوحيد للانتصار على الاحتلال والوقوف بكل قوة أمام كل المحاولات الإسرائيلية التي تسعى إلى تغييب الثقافة الوطنية وطمس الهوية الفلسطينية.

وقال: "حافظ الأدب الفلسطيني على الموروث الثقافي والهوية الفلسطينية من خلال ريشة الفنان وقصيدة الشاعر ورواية الكاتب ومن خلال الحفاظ على الأغنية الفلسطينية والتراث الفلسطيني ومن خلال نشر الوعي الثقافي والوطني والنضالي الذي يدافع عن الوطن ويطالب بالحقوق المشروعة".

وأضاف: "شكلت الرواية الفلسطينية ميدانا للصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي المغتصب لأرضنا الفلسطينية، فقد برز دور للكتاب والروائيين أولا في الحفاظ على الموروث الثقافي وثانيا في مقاومة وتفنيد المزاعم الإسرائيلية في تزوير الثقافة الفلسطينية لأن الثقافة ركيزة مهمة تمثل الحس الوطني لدى الفلسطينيين، وتعبر عن القيم الوطنية والصمود والتضحية".

وتابع: "منذ عام 1948 وبعد أن دمر الاحتلال الإسرائيلي بيوت الفلسطينيين وطردهم من أراضيهم وسلبهم كل ما يملكون حتى الكتب، والتراث الذي عمد الاحتلال دوما إلى سرقته وتقديمه للعالم على أنه تراث إسرائيلي يستمدون منه أحقيتهم التاريخية بأرض فلسطين، فلا يزال الإسرائيليون يعيشون على الوهم والباطل في الادعاء والاستيلاء على التراث الفلسطيني".

وأوضح أن الرواية الفلسطينية نشطت بعد النكبة في المخيمات الفلسطينية للاجئين يروون حكايات البلاد قبل النكبة والهجرة وعن معاناتهم في الهرب بحثا عن الحياة، ثم تطورت لتحفظ التراث الفلسطيني، وعملت على تعزيز الهوية الفلسطينية، فالرواية من أهم الوسائل النضالية في المعركة المستمرة مع الاحتلال الإسرائيلي وتعريته وكشف كل محاولاته الخبيثة في سرقة وتزييف التراث الفلسطيني، والحث على الصمود الفلسطيني ونشر الوعي والحس الوطني.

وشدد البسيوني على أن الرواية عبرت عن الوجود الفلسطيني وجسدت القضية الفلسطينية ذلك من خلال دعم وتعزيز الهوية الفلسطينية وإبراز القضية الفلسطينية باعتبارها قضية عربية إسلامية تستنهض الشعور العربي والإسلامي.

وقال: "بدأ الاحتلال بمحاربة الرواية الفلسطينية منذ بدايتها وما ذلك إلا لدورها الكبير في تعرية الاحتلال وكشف عورته وممارساته وأدواته القذرة في التعامل مع أبناء الشعب الفلسطيني فاعتمد سياسة الاغتيال للكتاب والروائيين والشعراء، فكان اغتيال المناضل والروائي غسان كنفاني الذي عمل على دحض المزاعم الإسرائيلية بقلمه ووعيه".

وأضاف: "عمد الاحتلال إلى استخدام كل الوسائل القمعية ضد المثقف الفلسطيني من اغتيال واعتقال وحجب النشر على مواقع تواصل الاجتماعي وتجميد حساباته عليها وما ذلك إلا لمنع نشر الهوية الفلسطينية وطمس القيم الوطنية".


التعليقات (0)