كتاب عربي 21

لماذا أنا متفائل؟!

حلمي الأسمر
1300x600
1300x600

بداية أنا لا أؤمن تماما بتلك المشاعر الخاصة بالتفاؤل والتشاؤم، فلا محل لتلك المشاعر في واقع الحياة العملية وصيرورة الأقدار، فما هو حاصل سيحصل سواء تشاءمنا أو تفاءلنا، فضلا عن أن المحك الأساس في وزن سلبية أو إيجابية شيء ما هو "الإنجاز" بمعنى آخر فما تنجزه في المقدمات تجده فيما بعد، وينعكس على النتائج، فالتلميذ الذي يبلي حسنا في الإجابة على أسئلة الامتحان ليس له أن يتفاءل أو يتشاءم بالنجاح، وكذا هو حال الطالب الكسول، كلاهما نتيجته مرهونة بما قدم من منجز في ورقة الامتحان، ولا محل هنا للتشاؤم أو التفاؤل!

ولكن من باب مسايرة مشاعر التفاؤل والتشاؤم السائدة بين الناس، سألجأ لاستخدام التعبيرين، ربما لضرورة الكتابة لا أكثر..

على عكس الذين يرون أننا في بلاد العرب والمسلمين عموما نعيش واقعا "منحطا" وبائسا يبعث مشاعر اليأس والإحباط، أشعر شخصيا بقدر كبير من التفاؤل بالمستقبل، على المدى المتوسط والبعيد، أما القريب فهو يحمل قدرا غير قليل من المعاناة والتعب!

وقبل أن يرفع القارئ العزيز حاجبيه دهشة واستغرابا، دعونا نرى المشهد من زاوية أخرى، ولكن قبل هذا، لنستذكر معا المشهد الحالي البشع، بكلمات قليلة نحن في حالة اقتتال ذاتي، أو هكذا يبدو، ثمة حروب بينية، تتخذ أحيانا شكل الصراع المذهبي أو العرقي أو الطائفي، ونحن أيضا، أعني كلنا حكاما ومحكومين، في حالة عدم توازن، أو قل اضطراب، وصار مألوفا أن تسمع شتيمة الذات في كل محفل، ومن أناس لم يكن يعنيهم الشأن العام، وهي حالة بائسة وأقرب إلى أن تكون مرضية، فليس من الشجاعة في شيء أن تقذف نفسك بسيل عرم من الشتائم لأنك في حالة ما من المعاناة والألم والمرض، والأحرى أن تبحث عن الدواء، لا تلعن الداء!

الجانب الآخر من المشهد، الذي يبعث على الأمل، يتعلق بورقة التوت الأخيرة التي سقطت عن النظام العربي الرسمي، وجامعته العربية، فقد أشبعنا هذا النظام مرجلة وكلاما منمقا، وإنشاء لغويا بالغ الأناقة في مظهره، وكان طيلة الوقت يمارس سرا دورا مغايرا لكل ما يقول، الجديد المريح اليوم، أن ما كان سرا في الماضي أصبح مكشوفا اليوم، فظهرت كل سوءات القوم، وبدا كذبهم، فأراحونا من عملية إقناع سواد الناس بكذبهم، وهي عملية في غاية الأهمية، إذ كانت أغلبية الشعوب العربية تنتظر خطاب فلان أو علان من الزعماء، باعتباره سيقول كلاما "مهما" ويعد بمواقف مهمة، ليكتشف المنتظرون أن كل ما فوق التراب تراب، وليس ذهبا، كما كان يتوهم البعض، إفلاس النظام العربي بالكامل، وتآكله على نحو متسارع، شيء مهم وجميل لدفع الناس للكف عن انتظار التغيير من الأعلى. 

ولا بد أن يعي العقل الجمعي للشارع أن التغيير ينبع منه هو، من تحت، وهنا بداية الصعود من القعر، من السهل هنا أن نلقي بتبعات بؤس المآل الذي وصل إليه الناس في بلاد العرب على طبقة الحكام، لكن الصحيح أن الناس يتحملون الجزء الأكبر، باعتبارهم البيئة الحاضنة للاستبداد الذي ألهب ظهورهم، وفي الوقت الذي يدرك سوادهم أنه لم يبق شيء ينتظرونه ممن استبد بهم، وأنه لا يطعمهم من جوع ولا يؤمنهم من خوف، تبدأ من ثم عملية التحول الكبرى.

 

النخب الحالية أو جلها لا كلها، نمت في حاضنة الأنظمة القائمة، وهي القوة الناعمة المدافعة عنها، و"كتيبتها" المقاتلة على جبهة الوعي، ومصلحتها مرتبطة بما هو قائم، وأي تغيير حقيقي يهدد مصالحها، ولهذا يجب الحذر منها أكثر من الحذر الواجب تجاه أجهزة القمع الرسمية،

 

المعضلة هنا، من يعلق الجرس، ومن يحمل الصولجان، ويقود الناس التائهة، الباحثة عن "رمز" تتبعه، وهنا تحديدا، يأتي دور النخب وصناع الرأي العام، وقادة المجتمع المدني، ومدى قدرتهم على الإمساك بطرف خيط التغيير، والتماهي مع رغبة الجماهير، والاستجابة لتطلعاتهم، وأحسب أن العبء الأكبر هنا يقع على عاتق المكونات المجتمعية المنظمة جيدا، والرموز الدينية والأدبية والعلمية، التي يستمع إليها الناس، ويعتدون برأيها، ومدى قدرتها على توليد رؤية عبقرية، تقتنص الفرصة السانحة، وتأخذ بيد الناس نحو بداية طريق الخلاص، وتلك قصة أخرى!


فالنخب الحالية أو جلها لا كلها، نمت في حاضنة الأنظمة القائمة، وهي القوة الناعمة المدافعة عنها، و"كتيبتها" المقاتلة على جبهة الوعي، ومصلحتها مرتبطة بما هو قائم، وأي تغيير حقيقي يهدد مصالحها، ولهذا يجب الحذر منها أكثر من الحذر الواجب تجاه أجهزة القمع الرسمية، فالقمع الجسدي و"القانوني" الذي تمارسه الأنظمة يستهدف جسد المواطن ولقمة خبزه وحقه في التعبير والحياة، أما قمع النخب فيستهدف العقل والوجدان، وهو أخطر بكثير من القمع الجسدي، لهذا يتعين على متلقي خدمة النخب المتماهية مع الأنظمة المدافعة عنها المسوقة لضلالها، التحرر مما يقذفه هؤلاء عبر منصات الإعلام الرسمي وشبه الرسمي وحتى الشعبي، فهم يستهدفون إبقاء الناس في حالة من التخدير انتظارا لمعجزة لن تقع.

"متفائل" بالمستقبل كثيرا، ليس فقط لأن أشد ساعات الليل حلكة وقت السحر أي ما يسبق الفجر، بل أيضا لأن وجبات السوء والقبح والخيانة التي تتوالد كل يوم في الواقع العربي، تفعل فعل إذكاء النار تحت الموقد فتعجل بالوصول إلى درجة الغليان والانفجار!


التعليقات (1)
الصعيدي المصري
الجمعة، 05-11-2021 09:37 م
اتفق مع الكاتب في وجهة نظره .. والدليل لدينا في مصر .. فلقد سقطت اصنام عبدناها لعقود .. بدءا من ناصر الذي ملأ الدنيا صياحا وجعجعة والذي اصبحت سيرته الان للاجيال الصاعدة مكشوفة ومفضوحة .. وصولا الى السيسي الذي اكمل مسيرة الفشل والاستبداد .. لم يعد الحاكم الها .. ولكنه اصبح مرتعا للاستهواء والسخرية حتى وان كان يحمل بندقية ويعتلي ظهر دبابة .. الوعي الجمعي اخذ في التزايد رغم تعثر الربيع العربي .. ولكن ما تحقق من وعي لدى الناس لا ينقصه الا شرارة البدء لنحيل الردم والركام على عصور الاستبداد والفساد والفشل .. ربما لن يتحقق ذلك اليوم او غدا .. ولكنه يوم ات لا ريب فيه ..