كتب

كريشان.. شهادات عن السياسة والإعلام والإسلام السياسي

الإعلامي التونسي محمد كريشان يروي خفايا لقاءات مع الحكام والمعارضين من المغرب إلى المشرق
الإعلامي التونسي محمد كريشان يروي خفايا لقاءات مع الحكام والمعارضين من المغرب إلى المشرق

صدر مؤخرا كتاب أنيق من 430 صفحة عن المؤسسة اللبنانية "جسور للترجمة والنشر" للإعلامي التونسي والوجه التلفزي محمد كريشان، ورد بأسلوب شيق ثري ضمنه شهادات نادرة عن  الأربعين عاما الماضية عربيا ودوليا، واختار له عنوانا: "محمد كريشان يروي.. وإليكم التفاصيل".

الكتاب الذي اختار الناشر والمصمم أن تكون على واجهته صورة كبيرة للصحفي محمد كريشان، كما عرفه ملايين المتابعين لبرامج "بي بي سي" ثم قناة "الجزيرة" منذ ربع قرن، عرض في نفس الوقت "خلفية ناطقة" في شكل صور صغيرة جمعت المؤلف مع شخصيات اعتبارية عالمية وعربية خلال مساراته بين الصحافة المكتوبة والمسموعة في تونس، ثم خلال تجاربه مع إذاعات تونس وهولندا ومونتي كارلو ثم مع تلفزيون "بي بي سي"  قبل أن ينتقل إلى الدوحة.

كما تضمن "ملحق الصور" داخل الكتاب 44 عينة من الصور التي تلخص مسيرته المهنية منذ عامه الأول في الجامعة، عندما اشتغل ليلا في "قسم الهاتف" في جريدة "لابريس" التونسية، ثم لقاءات جمعته بشخصيات سياسية تونسية وعربية ودولية بينها الزعيمان الفلسطينيان الراحلان ياسر عرفات وجورج حبش والرؤساء محمود عباس وزين العابدين بن علي والمنصف المرزوقي والباجي قائد السبسي وقيس سعيد وبشار الأسد وعبد الله غل ورجب طيب أوردغان وعلي عبد الله صالح والأمير القطري حمد بن خليفة والفنان المصري العربي الملتزم الراحل "الشيخ إمام" والكاتب والمفكر القومي محمد حسنين هيكل..

"الإصلاح من الداخل" أم "التغيير"؟

لكن أهمية الكتاب تتمثل أساسا في نجاح صاحبه في أن يعرض على طريقة "الراوي" و"الشاهد على العصر" تفاصيل مغمورة " عن الأحداث التي واكبها ، بأسلوب جذاب.. مع التجرؤ على فتح تفكير مع القارئ حول إشكاليات قديمة جديدة ذات أبعاد إستراتيجية..

لم يقدم الكتاب سيرة ذاتية تقليدية للمؤلف ولا دراسة أكاديمية لتطور الإعلام والحياة السياسية في تونس ثم في الوطن العربي وفي العواصم الأوروبية، بل انطلق من روايات "ذاتية" ليقدم إضافات وأفكارا كانت ومازالت محور جدل ومناظرات في كامل العالم وفي غالبية الدول العربية والإسلامية، مثل "العلاقة مع الآخر" و"الإصلاح من الداخل" و"التغيير الشامل" و"الفعل الثوري" و"القطيعة والصدام" و"المصالحة الوطنية" و"الانتقال الديمقراطي" و"الإسلام السياسي" و"مدنية المجتمع والدولة" و"التراث" و"القطع مع المنظومات الفكرية والسياسية القديمة" و "حياد الإعلام" و"تداخل أجندات المال والسياسة والسلطة" و"الثنائيات" داخل مؤسسات الحكم والمعارضة و"الجهاد" و"التطرف والإرهاب" وانتهازية قطاع من المثقفين والإعلاميين" و"شيطنة الآخر" و"التكفير" و"صدام الثقافات والحضارات".. الخ..

 

جمع الكتاب بين الشهادات والملاحظات الشخصية والروايات الخاصة لأحداث وقضايا عامة من خلال  نشر وثائق نادرة وعينات معبرة عن محطات سياسية محلية واقليمية ودولية واكب جانبا منها منذ بدء مغامراته في عالم النفاذ إلى "كواليس السياسة والصحافة" و مجالس "صناع القرار" في تونس ثم في العالم.   

من "الرأي" التونسية إلى هيكل

في نفس الوقت تضمن الكتاب روايات وقصصا "طريفة"، بعضها يدفعك للابتسام والضحك رغما عنك، منها ما سجل بمحضر رؤساء وزعماء كبار مثل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ووزير الخارحية العراقي سابقا طارق عزيز والعقيد الليبي معمر القذافي والعاهل المغربي الحسن الثاني.. فضلا عن المغامرات مع بعض كبار الصحفيين العرب والأجانب..

 



لكن الأهم كان تقديم محمد كريشان شهادات ثرية ومتنوعة عن خلاف قديم جديد عاشه مع قطاع من الإعلاميين والمثقفين والسياسيين التونسيين والعرب من جيل جريدة "الرأي" التونسية المستقلة في العشرية الأخيرة من حكم الحبيب بورقيبة إلى ما بعد "الثورات العربية" لعام 2011..

قدم كريشان بالمناسبة الخلاف الذي برز بين تيارين من الزعماء السياسيين في تونس أواخر عهد بورقيبة:
ـ الأول بزعامة الوزير السابق و"أب الديمقراطية والتعددية" أحمد المستيري وقد أسس حزب "الديمقراطيين الاشتراكيين" المعارض، بدعم من سياسيين خرجوا من رحم الحزب الحاكم ونشطاء ليبيراليين ووطنيين ويساريين معتدلين أسسوا عدة صحف معارضة بينها "المستقبل" و"الديمقراطية" (بالفرنسية).. وساهموا في تأسيس صحف وأحزاب معارضة أخرى رفعت شعار "التغيير الشامل للنظام".

 

                                        أحمد المستيري

ـ أما التيار الثاني فقد تزعمه وزراء وسياسيون ونشطاء، من مدارس مختلفة، عارضوا حكم بورقيبة في عقد السبعينات ثم تبنوا خيار "الاصلاح من الداخل". تزعم هذا التيار وزراء سابقون ليبيراليون مثل حسيب بن عمار والباجي قائد السبسي والصادق بن جمعة.. وقد أسسوا منذ 1977 صحيفة "الرأي" التي كانت الأكثر شعبية وتأثيرا داخل النخب الحاكمة والمعارضة والمستقلين حتى سقوط حكم بورقيبة في 1987 لأسباب عديدة من بينها انفتاحها على كل التيارات اليسارية والليبيرالية والإسلامية التي استقطبت الشباب والنقابات والجامعيين وقتها..

وكان محمد كريشان على غرار نخبة من مثقفي تونس وكبار كتابها وساستها بدأوا مسيرتهم في هذه الصحيفة.. لذلك أطنب في التنويه بدورها وبرصيدها وانتقد بحدة حظرها منذ وصول زين العابدين بن علي إلى الحكم.    

 

                           أحمد المستيري والباجي قايد السبسي

نفس الإشكالية تناولها كريشان بأسلوب "الراوي" وبعمق أكبر في الفصل السادس من الكتاب الذي تعرض فيه، خلال 40 صفحة كاملة، إلى جوانب من حواراته المنشورة وغير المنشورة مع عميد الكتاب والصحفيين والسياسيين القوميين العرب والمصريين محمد حسنين هيكل. وقد نشرها تحت عنوان "مع هيكل" نسبة للبرنامج التلفزي الذي بث سلسلة المقابلات الصحفية التي أجراها معه لفائدة قناة "الجزيرة".

الثورات العربية؟

كشف الكتاب أن محمد كريشان لم يتحاور مع "الأستاذ" (يقصد محمد حسنين هيكل) حول "المنعرج الأمني العسكري في مصر في تموز (يوليو) تمور2013 بعد سلسلة حواراتهما عامي 2011 و 2012 حول "التغيير" و"الثورات العربية" ودعم بعض العواصم الخليحية والغربية "للربيع العربي"..

لكنه قدم بأسلوب حذر شهادات ومعلومات عن مواقف هيكل التي رحبت بـ "الثورة التونسية" وبالانتفاضة التي أطاحت بحكم حسني مبارك في مصر بعد أسابيع من اندلاع "ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011"..

وتوقف الكاتب خاصة عند تحفظ هيكل مبكرا على "إشعال فتيل الحرب ضد النظام السوري" وكيف أنه رجح أن حكم بشار الأسد سيصمد.. كما تحفظ على "النهاية الدرامية" للعقيد معمر القذافي رغم انتقاداته الحادة له منذ أن كلفه الرئيس جمال عبد الناصر بزيارته في طرابلس بعد انقلاب أيلول (سبتمبر) 1969 مباشرة..

 

                              حسنين هيكل في سلسلة حواراته مع كريشان


ولعل من أهم ما في عشرات الصفحات التي خصصت في الكتاب لاستعراض بعض مواقف حسنين هيكل وتصريحاته العلنية، أو دردشته مع كريشان في الكواليس، أنها نبهت مبكرا من "بعض المحاذير" ومن سيناريو فشل بعض "الثورات" بسبب الموقع الجيو استراتيجي بالنسبة لإسرائيل وعواصم دولية لعدد من الدول من بينها مصر والدول النفطية..

الإسلام السياسي

في نفس السياق قدم الكتاب إضافة نوعية عندما عرض شهادات مهمة حول مواقف هيكل من حركات "الاحتجاج الإسلامي" العربية، على غرار حركة "النهضة" التونسية والأحزاب القريبة من جماعات "الاخوان المسلمين" في مصر وخارجها..

كريشان قدم شهادات تقدير أوردها "الأستاذ هيكل" لبعض قيادات "النهضة" التونسية الذين اعتبر أنهم تأثروا بساسة الغرب وبعض مفكريه وبالتيارات العقلانية في تونس وشمال إفريقيا، واعتبر أنهم "لم يتورطوا أبدا في العمليات الإرهابية خلافا لبعض جماعات الإخوان"..

لكنه كشف مجددا أن هيكل التقى موضوعيا مع "التيار الواقعي" الذي برز في عدة دول عربية ثم تونس قبل خمسين عاما بزعامة الوزير والحقوقي حسيب بن عمار.

وقد دعا أنصار هذا التيار إلى "المشاركة" و"الحوار والتعددية" ورفض "الخيارات الثورية غير الواقعية" و"منهج القطيعة والصدام" لأسباب عديدة من بنيها أن "النظام الإقليمي والدولي" لا يسمح لمن يسمون بزعماء "تيار الإسلام السياسي" ، أو "الإسلام الاحتجاجي" أن يحكموا أو أن "يتصدروا المشهد"..

وقدم كريشان بالمناسبة شهادات عن نصائح أورد حسنين هيكل أنه قدمها لرموز الاعتدال في حركة الإخوان المصرية، مثل عصام العريان وعبد المنعم أبو الفتوح قبل 2011 وبعدها.. تدعوهم إلى "البقاء في الصف الثاني" وعدم تصدر المشهد السياسي الوطني وتجنب الانخراط في المعركة للفوز بمواقع على رأس مؤسسات الدولة..

ويختتم كريشان كتابه وشهاداته بعرض موجز عن حوار أجراه في نيويورك بعد انقلاب 2013 مع باسل يوسف "الذي تصدر الإعلاميين الذين تهجموا على أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، أي الراحل محمد مرسي، وساهموا في الاطاحة به.. ثم عبروا عن ندمهم لأن "هامش الحريات واحترام حقوق الإنسان بعده تراجع بشكل لم يتوقعوه" ثم دفعوا جميعا الثمن.. كما دفعت كامل المنطقة نحو الفوضى والاستبداد وأجهض "الحراك الشعبي" في كل الدول العربية، وتعزز نفوذ الحكومات البوليسية والعسكرية..  

يمكن أن تتفق مع مضمون هذا الكتاب أو أن تختلف معه، لكنه يقدم إضافات نوعية ويفتح الباب للحوار والتفاعل..


التعليقات (1)
الثورة فرض
الخميس، 02-12-2021 09:42 ص
البقاء في الصف الثاني؟! نصيحة هيكل رحمه الله هذه لم تفيد عصام الدين رحمه الله و لا الإسلام السياسي في مصر و حتى تونس ،النظام الإقليمي و الدولي يسمح رغما عنه إذا كانت هناك إرادة حقيقية الدليل هو سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كيف إستطاع كسر النظام الإقليمي و الدولي في عهده، الدليل في السيد أردوغان، الدليل في الكثير من الثوار الآخرين كانوا مسلمين أم لا.