قضايا وآراء

مهرجان قرطاج السينمائي.. صناعة التفاهة وحتمية التفاؤل

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600
1- استياء

الدورة الثالثة والثلاثون لمهرجان قرطاج خلفت ردود فعل كبيرة وسلبية في عمومها، وكان لكلٍّ منها موقف من وجهة نظر معينة، وكانت أكثر المواقف استهجانا وامتعاضا هي تلك التي تعلقت بالظهور الجسداني لممثلات وفنانات في افتتاح الدورة المنعقد بمدينة الثقافة.

السينما هي واحدة من أهم التعبيرات الفنية التي ابتدعها الإنسان واستوعب فيها بقية الفنون من رواية ومسرح وشعر، واستعان فيها بأرقى التقنيات الحديثة في الصورة والإخراج والبث والإضاءة والخدعة، وهي عالم بذاته من حيث فضاءاته ومبدعوه وجمهوره، ومن حيثُ كلفتُه أيضا، إذ هي أكثر الفنون كلفة مادية، سواء تحملتها الدولة أو شركات إنتاج خاصة.

لسنا من أصحاب نظرية الفن للفن ولا من دعاة استعمال الفن للدعاية السياسة أو لإشهار بضائع مصانع أصحاب رأس المال، ولكننا مع آخرين كثيرين نؤمن بالوظيفة الإنسانية للفن في أبعادها الجمالية والتحررية والعاطفية والقِيمية، بعيدا عن الصخب والإثارة والدعاية والتهريج، وتساميا عن الإسفاف والإثارة الغرائزية، وترفعا عن التحريض وتوليد الأحقاد ونوازع العنصرية والتسلط.

ما تركه حفل افتتاح الدورة الأخيرة في قصر المؤتمرات من استياء كبير في أوساط واسعة، بسبب الاستعراض الجسداني لأغلب الفنانات المدعوات، وبسبب ما عبر عنه مدير المهرجان من كونه يساريا يدافع عن خيار ثقافي، يجعلنا نبدي ملاحظاتنا التالية:

أولا: نحن نعدّ اللباس حرية شخصية لا دخل فيها للآخرين، تماما كما حرية التفكير والتعبير والمعتقد.
هل تتحول مناسباتنا الثقافية المهمة إلى محطات للاشتراك في خدمة رأس المال الجشع ولإهانة الثقافة والمرأة والحداثة؟

ثانيا: مهرجان قرطاج السينمائي هو مناسبة وطنية لتقديم صورة عن تونس الإبداع وتونس التاريخ وتونس "الإنسان"، بما هو فن وفكرة وعاطفة وممارسة راقية تُنتجها الثقافة، بما هي ما بعد البداوة أو ما بعد "الغريزة".

ثالثا؛ إن حرص المشرفين على الدورة على تقديم مشهدية جسدانية، لا تعبر عن وعي بالإنسان ولا عن تقدير للمرأة، ولا عن تجاوز لـ"ما بعد" الغريزة والبداوة.

هل يعتقد هؤلاء بكون المرأة جسدا في عالم الأفكار والإبداع والمعارف؟ هل يعتقدون أننا في عصر يمكن للموز المسلوخ أن يُحدث انبهارا في عواطف الرجال تماما كما كان في عصر البداوة، إذ يمكن لخصلة شعر أو أرنبة أنف أنثى أن تفجر كوامن المشاهدين المعقّدين؟

إن هؤلاء إنما يُهينون أنفسهم ويُهينون المرأة ويُهينون "الحداثة" التي يزعمونها، حين يقدمونها في هيئة "قَدّ ممشوق" أو "مناطق متفجرة" من الشهوانية والرغبات الالتذاذية والليبيد المخزون.

لقد ابتدع رأس المال الجشع فنون الإشهار، واستعمل فيه المرأة كمحفز للغرائز وللدوافع الاستهلاكية، حتى أصبح جمال الفتيات يُستعمل على عُلب البضائع ومواد التنظيف، ومختلف المنتوجات المهددة بالكساد.

هل تتحول مناسباتنا الثقافية المهمة إلى محطات للاشتراك في خدمة رأس المال الجشع ولإهانة الثقافة والمرأة والحداثة؟
تكتسب الصفات بتوفر شروط نقيضها، فالمتسامح هو من كان قادرا على المعاقبة، والمتواضع هو من كان قادرا على التكبر، والمسالم هو القادر على خوض الحروب. ولا معنى للحديث عن الثبات إلا إذا ما توفرت عوامل الإحباط واليأس والخوف

2- الإحباط والثبات

إنما تكتسب الصفات بتوفر شروط نقيضها، فالمتسامح هو من كان قادرا على المعاقبة، والمتواضع هو من كان قادرا على التكبر، والمسالم هو القادر على خوض الحروب. ولا معنى للحديث عن الثبات إلا إذا ما توفرت عوامل الإحباط واليأس والخوف، كـ"الذين قال لهم الناسُ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"، والذين يُرادُ لهم أن يتحولوا إلى كائنات استهلاكية يُسهمون في تنمية رأسمال "الدواب" المعاصرة. يُرادُ لهم الاستفراغ من المعاني الإنسانية ومن القيم المعيارية، ومن دفق الحب والشوق والأمل؛ ليظلوا مسكونين فقط بطاقة التذاذية وشهوانية محمومة. يُرادُ "للإنسان" أن يُدفن في الأجساد المجففة؛ أجساد كما القبور المتحركة، أو كما الخُشُب المسندة، أو كما أعجاز نخل خاوية.

"الدواب" المعاصرة تضربُ بأكرعها في كل مجرى وتدق قرونها في كلّ مرآة، تَخويفا لكل ذي رأي وذي بصيرة ولكل المنشدين لمعاني الحياة. "الحياة" ليست مجرد كينونة طبيعية يستوي فيها الآدميون والأنعامُ والنباتات والأصنامُ، وليست مُجرد عيش تحققه المواد الاستهلاكية. "الحياة" حضورٌ فاعلٌ في التاريخ وقدرة على التجدد وعلى الرفض والتمرد والتساؤل باستمرار. الإنسان الحي ليس مجرد كتلة بيولوجية تجري عليها قوانين الطبيعة كما تجري على كل الكائنات، وليس مجرد رقم في تعداد الدّابين على الأرض. تمسك "الدواب" المعاصرة بأدوات صناعة المشهد العام، تسفك دماء وتلوي أعناقا وتُعلي من شأن حفاري القبور، بل وتتجرأ على أعظم "وظيفة"، إذ تدعي قدرة على تأهيل الآدميين لـ"الحياة"، تمارس عليهم إكراهات "ثقافية" تدمّر الأعصاب وتغيظ الصدور وتدوّخُ النشأ، تدفع به إلى الهستيريا الجماعية وإلى التشرد في غير وجهة وغير قرار.

- هل أنت متشائم يا أخي؟

سؤال يستله الواقفون على التشريح المُوجع للجسد المجفف: هل أنت متشائم إذ ترى أقداما من صلصال تتعالى كما الأبراج في كل منبت زرع أو مهبط ماء؟

- هل أنت متشائمٌ إذ ترى العلماء والمثقفين والأسوياء والمحبين والحالمين يصطفون جميعا على حافة المشهد، كما لو أنهم فضوليون غيرُ مرغوب في حضورهم، ويُشرّدون إذا ما لامسوا المشهد ذاك بفكرة أو نقد أو سؤال؟

- هل أنت متشائم أمام عروض التجريب الثقافي والسياسي -طويلة الأمد- في مختبرات الجغرافيا، وعلى شعوب ذات حضارة وتاريخ وعقيدة وتجارب في الإصلاح والتنوير؛ تساق معصوبة البصائر والأبصار إلى نهايات دموية، وإلى ظلمات تدكّ فيها النجومُ وتمزق السماوات بشواظ من نار؟

- هل أنت متشائم أن ترى جهود عقود في تقليب التراب وانتخاب المشاتل وتصليب الأغصان، تذروها عَصْفةٌ من ريح صرصر في ليل ماكر؟

- هل أنت متشائم أن ترى الدينار فوق الأفكار والأحذية، فوق الأدمغة والفارغين، فوق العارفين والخاطفين، فوق المتعففين؟

- هل أنت متشائم إذ ترى جيلا من الفتيان والفتيات في عمر الماء ينجرفون إلى صحارٍ؛ يشربهم شجر الزقوم، وتمُورُ فيهم عواصفُ القلق والحيرة ؟

- هل أنت متشائمٌ أن رجالا ونساء تكادُ تميدُ بهمُ الأرض، وتكاد تتخطفهم الصّيْحاتُ من كل مكان، يمشون بغير وقع ويهمسون بالأمل ولا يُسمِعُون، كما لو أنهم متلبسون بالخطيئة دائما؟
الهزائم ترقد في الذوات حين تزين لها الاستقالة والصمت ومجاراة وقع الواقع، وحين يستنبط المرء لنفسه مبرراتٍ لإسكات ضميره إذ يؤنبه عن سكوته، وحين تصبح الواقعية من مشتقات الوقيعة والوقوع، وتصبح العقلانية من مشتقات العُقال والعُقلة

- هل أنت متفائل يا أخي رغم المختبرات السرية يتجندُ فيها خبراءُ صناعة اليأس والحُمق والأمراض العصبية، ورغم كل فنون تدمير الأعصاب وتخليط الطبائع وتعكير الأمزجة وتدويخ العقول وترهيب الأنفس؟

3- حتمية التفاؤل

الهزائم ترقد في الذوات حين تزين لها الاستقالة والصمت ومجاراة وقع الواقع، وحين يستنبط المرء لنفسه مبررات لإسكات ضميره إذ يؤنبه عن سكوته، وحين تصبح الواقعية من مشتقات الوقيعة والوقوع، وتصبح العقلانية من مشتقات العُقال والعُقلة؛ عقلة على الحقيقة وعلى المصلحة.

تبدأ المعركة داخل الذات للتحرر من الوعي الزائف والمبررات الخادعة والتفاؤل الواهم، تبدأ بطرح الأسئلة الحقيقية الجريئة حول طبيعة المشهد وأسراره والأيادي التي تحركه، وحول مآلاته المرتقبة -منطقيا- وحول مدى مسؤوليتي أنا الصامتة أو الناطقة في صناعته، وحول الواجب التاريخي والشرعي الذي يتحتم علي أداؤه.

تمتد المعركة إلى ما حولنا ممن نخاطبهم يوميا ونتعامل معهم حين نتحرر من "عيب" المجاملة والاستحياء من الحق (إن الله لا يستحي من الحق)، وحين نقف الموقف الذي يجب وكما يجب، وحين لا نزين للخاطئين خطأهم حتى لا يتمادوا فيه ولا يغتروا بما هم عليه من أوهام وأخطاء، وحين نستجمع إرادتنا وهِمّتنا فنتحرر من الجُبن والطمع والتردد والبرود، وحين لا ترتخي لنا قامة أمام أقدام الصلصال، وحين لا ينتابنا شك في جوهر "الإنسان"، وفي صوابيّةِ خيار الذهاب إلى "الحياة" والتمرد على "الدواب" المعاصرة، التي تريدُ احتباسنا في الأجساد المجففة لا نتجاوز حالة "العيش".

تلك مغالبة للنفس ومغالبة لـ"الما حَوْل" مما كبر ومما نحسبه هيّنا، وهل الأحداث الكبرى إلا نتاج أسباب صغرى، وهل الحرائق إلا عود ثقاب؟
تبدأ المعركة داخل الذات للتحرر من الوعي الزائف والمبررات الخادعة والتفاؤل الواهم، تبدأ بطرح الأسئلة الحقيقية الجريئة حول طبيعة المشهد وأسراره والأيادي التي تحركه، وحول مآلاته المرتقبة

الذهاب إلى المستقبل يحتاج طاقة روحانية ووقودا تفاؤليا، ودرجة من المغامرة الشجاعة وقدرا من الاستهزاء بمكر الماكرين، وقدرة على "النسيان": نحتاج نسيان إيذاء المقربين وتآمر الأقرباء وغدر الأقربين، حتى لا يسكننا حقد ولا تتداخل روح المغالبة بروح الثأر.

نعم، ثمة محاسبة في صياغات التاريخ وسياقات الحوادث، ثمة محاسبة للذين أوقعوا السقوف على الغافلين وأرسلوا الذباب على الجفون يصيبُ العيون برمد، فلا يرى الصديق صديقا ولا يبصر الذاهبون طريقا. ثمة محاسبة حين تعتدل العقولُ وتنطلق الألسن، ويجد الناس متسعا لسماع روايات شهودِ عيان، عاينوا دخان الروح وعصير اللحوم الآدمية وطحين عظام الواقفين. ثمة محاسبة حين ينفرط الحبر وتنطلق الأجيال في "ترتيل" نصوص الأوجاع، كما لو أنها تكتشف القراءة لأول صيحة.

- هل أنت متفائل يا أخي؟

أما زلت ممتنعا عن الغيبوبة وعن "التدبّب"، تقسمُ أنك ستظل مستقيم القامة مبتسما متفائلا؛ نكاية في الذين غالبوا عزيمتك وخاتلوا وعيك وتآمروا على جهازك النفسي وأليافك العصبية؟ تحلف أن مداد حُلمك لا ينضب مستمدا من مداد كلمات ربك يُغالبُ مداد البحر ولو مُدّ سبعة. تعب الذين تفننوا في إتعابك ولم تتعبْ. تعب شهودُ الزور، والعسسُ، والحمّالون لحساب الغير، واللاغطون في الوسائل المرئية والسمعية، والماشون في جنازات الضحايا، والراكضون عراة في مسارب السياح، والمُسْرَجُون طبولا من جلود الضباع، والنافخون في مزاميرَ من حناجر الذئاب، والساهرون يترصدون حركة النجوم.. وما زلتَ أنت مثقلا بالشوق وبالحب وبكبرياء "الإنسان"، تضيئه نفخة من روح الله لا تقوى عليها ريحٌ ولا تُبدّدُها ظلمة، ولا يسِيحُ زيتها خارج مدارات النور ومسارات التحرر.

twitter.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)