قضايا وآراء

الرئيس- المؤسس والحوارُ المستحيل

عادل بن عبد الله
لا تهم سعيد الأعداد ولكن تهمه "النوعية"- جيتي
لا تهم سعيد الأعداد ولكن تهمه "النوعية"- جيتي
تصدير: "تونس من دون النهضة في الحكم أو في المعارضة ستكون أفضل"، منجي الرحوي أحد رموز اليسار الوظيفي في "العائلة الوطنية الديمقراطية"- الوطد (2015).

يبدو أن الانتخابات التشريعية الأخيرة قد جاءت لتؤكد حقيقةً قد غابت عن الكثيرين ممن ساندوا "تصحيح المسار" في الأشهر الأولى، وما زالت تغيب (أو تُهمّش بصورة قصدية) في سرديات "الأجسام الوظيفية"، التي ما زالت تدعم الرئيس بمنطق الانتهازية أو بمنطق المضادة الأيديولوجية لمخرجات الانتقال الديمقراطي في تونس (خاصة وجود الإسلاميين في الحقل السياسي القانوني).

وهذه الحقيقة تتمثل في أن الرئيس -منذ حملته الانتخابية- لم يطرح نفسه يوما "شريكا" لباقي الفاعلين الجماعيين، بل بديلا لهم جميعا. وقد لا نحتاج هنا إلى التذكير بصرخته الشهيرة بعد اغتيال المرحوم الحاج محمد البراهمي: "لِيرحلوا جميعا حكما ومعارضة". كما لا نحتاج إلى التذكير بموقف الرئيس من الأحزاب وحديثه عن نهاية زمن هذه الأجسام الوسيطة، وحاجة تونس إلى أشكال جديدة للتمثيل الشعبي. فقد يكفينا فقط أن نُذكّر برفض الرئيس تأسيس حزب حتى بعد 25 تموز/ يوليو 2021، وهو أمر يظهر مبدئية موقفه من الأحزاب وانتفاء الحاجة إليها في إدارة الشأن العام، الأمر الذي سيتجلى حتى في تعامله "الاستعلائي" مع "الحُويزِبات" التي ناصرته وتراجعت، أو تلك التي ما زالت تسير تحت ركابه.

قد لا يكون الرئيس المسنود أساسا بـ"القوى الديمقراطية" المعادية لحركة النهضة، إلا مشروعا لتعميم هذه القاعدة "الاستئصالية" أو الانقلابية (بصياغتيها الناعمة والصلبة)، بحيث تتخذ مع "التأسيس الثوري الجديد" الشكل التالي: تونس في ظل نظام رئاسوي ومن دون الأحزاب والأجسام الوسيطة "المستقلة" ستكون أفضل. ولذلك فإن الرئيس في الحقيقة لم يفعل شيئا غير توظيف الاستراتيجيات الانقلابي

ولا شك عندنا في أنّ هذه السردية السلطوية قد استمدت قوتها وما زالت تستمدها من تفتت المعارضة، كما أنها قد نهلت وما زالت تنهل من الصراعات الهوياتية التي طبعت الحياة السياسية في تونس منذ المرحلة التأسيسية. كما لا شك في أن ما صرّح به منجي الرحوي منذ سنوات، هو الجذر الأعمق أو المشترك الفكري، بين أغلب مكوّنات ما يُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية" في تونس.

وقد لا يكون الرئيس المسنود أساسا بـ"القوى الديمقراطية" المعادية لحركة النهضة، إلا مشروعا لتعميم هذه القاعدة "الاستئصالية" أو الانقلابية (بصياغتيها الناعمة والصلبة)، بحيث تتخذ مع "التأسيس الثوري الجديد" الشكل التالي: تونس في ظل نظام رئاسوي ومن دون الأحزاب والأجسام الوسيطة "المستقلة" ستكون أفضل. ولذلك فإن الرئيس في الحقيقة لم يفعل شيئا غير توظيف الاستراتيجيات الانقلابية، التي بدأت منذ اعتماد منطق "استمرارية الدولة" لخدمة مشروعه، وتحويل "حالة الاستثناء" إلى "مرحلة انتقالية" تمهد لجمهوريته الجديدة.

في كلمته التي ألقاها يوم الأربعاء (28 كانون الأول/ ديسمبر) أمام رئيسة الحكومة والمشرفين على "وزارات السيادة" والقيادات العسكرية، وضع الرئيس حدا لأوهام أولئك الذين ما زالوا يراهنون على إمكانية تراجعه عن مشروعه وخارطة الطريق التي تؤطرها سياسيا. فقد حوّل الرئيس هذا الاجتماع إلى منبر لمهاجمة كل خصومه بلا استثناء، باستعمال ضمير الغائب الجمع (هُم). وعوض صياغة خطاب لتخفيف حدة الاحتقان السياسي والاجتماعي والاقتصادي، اعتمد الرئيس خطابا تصعيديا، أساسه تلك الثنائيات التفاضلية الحادة بين "الصادقين" و"الوطنيين" وبين "المجرمين" و"الخونة" و"المأجورين"، وهي ثنائيات لا تقبل إلا علاقة "الصراع الوجودي"، وإن صيغ بمفردات "قانونية".

اعتمد الرئيس خطابا تصعيديا، أساسه تلك الثنائيات التفاضلية الحادة بين "الصادقين" و"الوطنيين" وبين "المجرمين" و"الخونة" و"المأجورين"، وهي ثنائيات لا تقبل إلا علاقة "الصراع الوجودي"، وإن صيغ بمفردات "قانونية"

ولعلّ أخطر ما في كلمة الرئيس ليس مهاجمة خصومه "الغارقين حتى النخاع في الفساد وفي الخيانة"، والساعين إلى "ضرب السلم الأهلي" والمصرّين على "التطاول على الدولة ورموزها، "بما يجعلهم داخلين تحت طائلة القانون بتهمة "التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي"، بل الأخطر هو تحول الهجوم والتخوين إلى مجموع الناخبين في الاستحقاقات الانتخابية السابقة.

وإذا كان التعامل مع الخصوم السياسيين يستدعي -حسب خطاب الرئيس- وقفة حازمة من "القضاة الشرفاء" ومن أجهزة الدولة التنفيذية، فإن نتائج الانتخابات لا تحتاج من الرئيس أية مراجعات/ تراجعات. فيكفيه أن يعترف بوجود تجاوزات قد شابت هذه الانتخابات، وهو سيحرص شخصيا على التعامل معها بمنطق "سحب الوكالة"، أما نسبة العزوف الشعبي العام عن المشاركة، فإنها لا تمثّل مصدر قلق للرئيس- المؤسس. فالعبرة ليست بعدد المشاركين، بل بـ"نوعيتهم".

أمام الأرقام التي أعلنتها هيئة الانتخابات المعينة من الرئيس ذاته، لم يكن أمام هذا الأخير إلا إبعاد النُّجعة في تأويل تلك الأرقام. فنسبة "9 في المائة أو 12 في المائة من الذين شاركوا أفضل من 99 في المائة التي كانوا يشاركون فيها (هكذا). وكانت تتهاطل برقيات التهاني من الخارج، وتعلم تلك العواصم أن الانتخابات مزوّرة. نحن بحاجة إلى برقيات التهاني من الشعب التونسي". ونحن نذهب إلى أن "الخطأ" اللغوي الوارد في كلمة الرئيس لا يعود إلى مسألة المشافهة وما يعتريها من لحن، بل هو خطأ اقتضته الضرورة "التواصلية". فلا يمكن للرئيس أن يعنيَ "نسبة المشاركة" (لم تُسجل هذه النسبة في أي انتخابات أجريت بعد الثورة)، بل الأرجح أنه يقصد "الناخبين".

لقد تراجع الرئيس في آخر لحظة عن المفاضلة بين "الناخبين" الذين شاركوا في الانتخابات الأخيرة والناخبين الذين شاركوا في الاستحقاقات السابقة. وبذلك يكون المعنى الأصلي هو أن 12 في المائة من الناخبين "الصادقين" أفضل من 99 في المائة من "المأجورين" أو "المتلاعب بهم"؛ الذين شاركوا في الانتخابات السابقة لـ"تصحيح المسار".

إن اللا مفكر فيه طيّ هذا المنطق، هو تلك الإحراجات التي قد يضع الرئيس فيها عند تفكيك خطابه التخويني للمعارضة. فرئيس هيئة الانتخابات فاروق بوعسكر والناطق الرسمي باسمها محمد التليلي المنصري، كانا في الهيئة المشرفة على انتخابات 2019، وهي الانتخابات التي جاءت بالأحزاب "الفاسدة" إلى الحكم، مثلما حملت الرئيس نفسه إلى قصر قرطاج. فكيف يمكن للرئيس أن يطعن في نتائج تلك الانتخابات ويتهم الفائزين فيها بتوظيف المال السياسي أو تلقي تمويلات أجنبية؛ ثم يُسند لعضوين من أعضاء الهيئة المشرفة عليها أهم منصبين في هيئة الانتخابات "المعينة" بمرسوم؟ وكيف يمكن الثقة في نتائج الانتخابات الرئاسية في ظل هيئة يتهمها الرئيس ضمنيا بالفساد، أو على الأقل بالعجز عن التصدي للأحزاب المتورطة فيه؟ بل كيف يمكن للرئيس أن يتهم 99 في المائة من الناخبين بـ"الفساد" في ما يخص الانتخابات التشريعية وهم أنفسهم من انتخبه؟

غلبة "منطق التعليمات" على خطاب الرئيس الأخير (وما يستتبعه من تصعيد مرتقب في التعامل مع المعارضة والاحتجاجات الميدانية)، سيزيد في تعميق الأزمة الشاملة التي تعيشها تونس. فهذا الخطاب سيُعمق الاستقطاب بين الحكم وأشكال المعارضات المختلفة، كما أنه سيجعل من طرح "الحوار الوطني الشامل" مجرد أمنية لا قيمة لها في الواقع

ختاما، فإن التعويل على انتقال الرئيس من منطق "الحوار الداخلي" بصوت جهير إلى منطق "المحاورة" لشركائه في الوطن، هو ضرب من المثالية أو الطوباوية التي لا تختلف في جوهرها عن طوباوية الرئيس في "تبرير" مشروعه، رغم محصوله الواقعي ورغم سقوط وهْم الدعم الشعبي بعد نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة.

ولا شك في أن غلبة "منطق التعليمات" على خطاب الرئيس الأخير (وما يستتبعه من تصعيد مرتقب في التعامل مع المعارضة والاحتجاجات الميدانية)، سيزيد في تعميق الأزمة الشاملة التي تعيشها تونس. فهذا الخطاب سيُعمق الاستقطاب بين الحكم وأشكال المعارضات المختلفة، كما أنه سيجعل من طرح "الحوار الوطني الشامل" مجرد أمنية لا قيمة لها في الواقع. ونحن نذهب إلى أن رفض الرئيس "للحوار" ليس في جوهره إلا استثمارا لغياب "الحوار" حتى بين مكونات المعارضة ذاتها، تلك المكونات التي يبدو أنها لم تلتقط رسالة الشعب الأخيرة، وستظل في المستوى القريب -بحكم عدم امتلاكها لبديل مقبول لدى غالبية الشعب-، مجرد أداة لكتابة بيانات التنديد وتنظيم المهرجانات الخطابية في الشوارع.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)