مقالات مختارة

مجتمعات الأواصر المفكّكة ومواقيتها

وسام سعادة
عربي21
مضى منذ وقت غير قصير، الزمن الذي كانت فيه الجماعات الدينية المختلفة تتصادم لدواع لاهوتيّة ـ كلاميّة أو إسكاتولوجيّة ـ أُخرويّة، أي دواع متصلة بمربط الخيل بين الدنيا والآخرة، ولمن الفوز باستحقاق النعيم، ومن مهبطه إلى بئس المهاد. هذا إن حَصَلَ من الأساس أن اشتبك البشر بعضهم مع بعض على اعتبار أُخرَويّ خالص ليس إلا. حيثُ إنّه في الأعمّ الغالب، لم يحضر «الخصام الإسكاتولوجي» هذا، والنزاع على السماء بالمطلق، إلا مجبولا بمتعلّقات الدنيا، والولع بها، والفزع من مفارقتها. كذلك بالنسبة إلى ذمّ الدنيا: لم تغب يوما دوافعه الدنيوية الصميمة.

لقد انخفض نسبيّا –ولو بشكل متفاوت بين المجتمعات كما بين الجماعات في كلّ واحدة منها–، ثقل ربط الدنيا بالآخرة، تارة لصالح الانهمام بالمستقبل الدنيويّ، مفتوحا على الأجيال المقبلة، وتارة لصالح الانهماك باليوميّ، والآنيّ. إلا أنّ «مداراة» الهواجس الأخروية أو طمسها أو تبديدها، بالآنيّ حينا وبالمستقبليّ ـ إنما الدهريّ ـ حينا آخر، لم يسمح بتيسير وتليين العلاقة بين الجماعات الدينية المختلفة، المرسَّمة حدودُ المباينة والمخالفة بينها، انطلاقا من افتراقها، بشكل أساسيّ، من زاوية مبحث الآخرة وعلاقتها بالدنيا، وشكل التهيؤ في الدنيا لها.

في أكثر من موضع وحيّز عبر العالم، ومنذ أجيال عديدة، ظهر أنّ التوتّرات بين الجماعات لا تنضب إن هي انزاحت أكثر فأكثر عن «الأُخرويّ» باتجاه «الدنيويّ». وبهذا المعنى، يمكن الكلام عن «تعلمن» المناكفات والمشاحنات والاشتباكات بين أبناء الفِرَق.

في المجتمعات «الأواصريّة» تحديدا، لم تتراجع آليات التنافر والتضارب بين المنتمين «الملتزمين» كما بين المتحدّرين «الملزومين» بهوية ذات منبت دينيّ. بل ربمّا كان العكس أصحّ، إذ اشتدّت دوافع الاحتراز والاشتباه من لدن جماعة حيال الجماعة المقابلة، سواء زُيِّنَ لهذا الاشتباه «لا طائفيّته» أو حُصِرَ بسياسيي الطائفة الأخرى دون جمهورها، أو امتدّ التهديف إلى عموم الجمهور، الأحياء منهم والأموات.

المجتمعات الأواصريّة هي تلك التي لا تزال محكومة بعلاقات القربى والمصاهرة والجيرة والانتماء إلى جماعة أهليّة بحكم الولادة. بحيث تكون ولادتك فعل انتساب «حزبي» وعصبيّ إلى هذه الجماعة، ويكون مماتك فعل انتقال إلى «قدامى المحاربين» فيها.

لكن أغلب المجتمعات الأواصريّة تشظّت اليوم، وباتت أسيرة «هوية الخوف من فقدان الهوية». تهجّنت فيها رابطة الأسرة والعشيرة والقبيلة والجهة والقوم. باتت مجتمعات أواصرية متهافتة روابطها أو مفكّكة. لكنها، رغم ذلك، لا تزال تنوء من ثقل هذه الروابط الأهلية وسلطانها، ومن ثقل تفكّكها سواء بسواء!

المجتمعات الأواصريّة لم تتفردَن كفاية. والمقصود هنا أن الفردَ فيها لم يتوطّد كقيمة معاشة ومثابرة، تفرض النظر إلى المصلحة كما الرغبة على أنَ مصدرها أولا الفرد، وإلى المجتمع على أنه شبكة واسعة مركبة أساسا من أفراد لهم حقوق وعليهم واجبات.

كما أنّها لم «تُطبقن» كفاية، من ناحية استقلال المعطيات والتناقضات الطبقية فيها عن أشكال أوسع من التنازع على الموارد والمنافع مؤطرة بالروابط العصبية والأهلية، ويكون فيها للجمهور من كل جماعة مصالح فعلية إلى جانب النافذين فيها، وما يمكنهم تحصيله من الدولة «الوطنية» بمعية نافذي الجماعة ومفاتيحها هؤلاء، ذلك بإزاء مصالح الجماعات الأخرى، ومواطئ قدمها الغارسة في الدولة ـ الأقسام المشتركة في المبنى– أيضا، ويكون فيها الظلم والحرمان الاجتماعيان غير متساويين بين جماعة وأخرى، بالشكل الذي يؤدي فيه اختلاف الهرم الاجتماعي من جماعة إلى أخرى، دورا وصائيا على التناقضات الطبقية على صعيد المجتمع مأخوذا ككل.

هذه المجتمعات الأواصريّة رغم اعتراضها من حيث هي كذلك، لسبيل التبلورين الفردي والطبقي ـ الاجتماعي، فإن موجات التحديث العشوائي المتتالية أفقدتها الكثير من اللحمة، حتى باتت أشبه ما تكون بأواصر من دون لحمة، وعصبية متقطّعة، سريعة العطب، وسريعة الاشتعال من بعد خفوت وشحوب.

في هذه المجتمعات «الأواصريّة ـ المفكّكة» التي تشبه مثال عائلة مفكّكة مؤجّل انفجارها إلى الدرجة التي يهرم فيها أركانها ويتعايشون مع عيشة التشظّي، ولا تعود لهم إلى الانفجار «بمعنى الفرز» طاقة، يفرض الاستنفار نفسه كدينامية أساسية للعلاقة بين الجماعات. فهذا يُطالب الجماعة التي ينتمي إليها بأن تستنفر زيادة ولا تهمد ولا تكلّ، وذاك يطالبها بخلاف الأوّل بأن تتحكّم بانفعالاتها وتكسب نقاطا تفاضلية في حساب الرزانة.

في هذه المجتمعات «الأواصريّة ـ المفكّكة» التي كثيرا ما يُجمّل توصيفها ويُشار إليها بـ«التعددية» ويكنّى الاستعصاء فيها وحيالها بـ«إدارة التعددية»، يحصل أن تحضر المشاحنة بأشكال مختلفة.

بعضها يعطي الانطباع بأنّه أكثر شمولية أو تعقيدا من أن يُحصَر بالتناقض بين جماعات دينية، ما يترك دائما المجال لسردية من نوع أنّ الصراعَ في أساسه غير طائفيّ وغير دينيّ، ثمّ جرى تطييفه ومذهبته لتشويه حقيقته الأولى. هذا يراه صراعا من أجل الحرية الفردية ثم ناله التشويه، وذلك يراه صراعا طبقيا ثم لحقه التشويه. والمشكلة هنا تكمن في خرافة «الحقيقة الأولى» السابقة على التشويه، وفي التعامل مع الواقع على الدوام أنّه يقع في كل مرة في سقطة، وينحدر من الصراع السليم إلى الصراع اللئيم. المشكلة في الحالتين تكمن في عدم القدرة على النظر إلى السمة المتناقضة لهذا النوع من المجتمعات، أواصرية ومفككة في آن. هي مجتمعات لا تعيش فيها الجماعة الأولى زمنا اسمه العصبية، ثم زمناً اسمه المُلك يبدأ فيه تحلّل العصبية. بل تعيش فيه كل جماعة الزمن نفسه على أنه زمن العصبية، لكن المتقطعة، والمُلك الذي لا يُفسِد خشونة، إذا ما استعدنا منظار ابن خلدون، بل يُفسدها. لم يعد المنظار الخلدوني صالحا لاستيعاب مسارات الهويات والجماعات، بل يفيد الرجوع إليه لاستيعاب كم اختلفنا عنه.

يحصل أيضا أن يحضر التوتر بين الجماعات بشكل سوء فهم أو شجار على صغائر الأمور، كأن ينفجر الوضع في إقليم من الهند مثلا بين طائفتين على خلفية شجار حول مقعد في حافلة قطار. هكذا شجار يمكن أن ينتقل من العراك بالأيدي داخل القطار نفسه إلى مذبحة مروعة في الشارع. أن يكون الشجار نفسه حول مقعد في قطار من صغائر الأمور، فتكرار الاستهانة بمعطى كهذا، لن يُقدّم أو يؤخّر. كثيرا ما تكون صغائر الأمور بين جماعتين هي التي تفسح المجال للنعرة والسعار بينهما أكثر بكثير من الاختلاف المؤطّر خطابيّا وحجاجيّا حول قضية خلافية حساسة. وما يحصل في الهند يحصل في لبنان بشكل مختلف. خذ مثلا «معركة التوقيت» في الأيام التي مضت.

أن يكون الاختلاف على أمر غير ذي بال مقارنة بوضع البلد المنهار اقتصاديا والمتحلل سياسيا، فهذا لن يسعف كثيرا في فهم علام يمكن أن تتشنّج المجتمعات الأواصرية ـ المفككة حيال هذا النوع من المسائل أكثر من الخوض في مسائل أشد عمقا أو وأكثر إلحاحا.

في الوقت نفسه، مثال الشجار في قطار هنا مختلف عن مثال الانشطار الطائفي بين توقيتين شتوي وصيفي في لبنان. فالأوّل له كلفة دموية، والثاني يحيل إلى معركة افتراضية بالكامل. المجتمعات الأواصرية ـ المفكّكة هي أيضا مجتمعات تتأرجح بين هذين التصريفين للتوتّرات بين الجماعات والهويات فيها. عاش لبنان لأيام متتالية حربا «دينية» دنيوية بالكامل، وافتراضية بالكامل، لم تقع فيها ضربة كفّ واحدة. حصلت كلّها في صدور الناس المنقبضة وعلى شاشات هواتفهم. معركة انتهت برابح وخاسر. إنما، برابح افتراضي وبخاسر في الافتراض أيضا. ولا يتمّ تصريف الربح بالافتراض على أرض الواقع بشكل تلقائي في هذا النوع من المجتمعات.

القدس العربي
التعليقات (0)