صحافة دولية

تناقض صقور الليبرالية الأمريكيين.. يهاجمون روسيا ويساعدون الاحتلال

تناقض في الموقف الأمريكي من الحرب في غزة وأوكرانيا- جيتي
تناقض في الموقف الأمريكي من الحرب في غزة وأوكرانيا- جيتي
 استعرض مقال نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية لأستاذ الصحافة والعلوم السياسية في كلية نيومارك للصحافة في جامعة سيتي بمدينة نيويورك بينر بينارت، التناقض في الموقف الأمريكي بين ما يجري في غزة وأوكرانيا.

وقال بينارت؛ إنه "لم يسبق أن برزت إلى السطح بهذا الوضوح مثل تلك الالتواءات الأيديولوجية كما حصل لها في أثناء الحرب الإسرائيلية في غزة، فعادة ما يعبر صقور الليبرالية عن التزامهم بحقوق الإنسان، ومع ذلك لا تجدهم يطالبون بإنهاء الحرب التي تقتل من الناس في اليوم الواحد أكثر مما قتل أي صراع آخر اندلع منذ بداية هذا القرن".

وأضاف، أن صقور الليبرالية يريدون الحفاظ على التفوق الأمريكي، الذي يرتبط في أذهانهم بالتقدم البشري، إلا أن المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية تكشف عن حقيقة بالغة القسوة، ألا وهي أنه في معظم العالم، ولعقود عديدة، استخدمت الولايات المتحدة قوتها ليس من أجل الدفاع عن الحرية، بل بهدف حرمان الشعوب الأخرى منها. 
 
وتابع: "لا يستطيع صقور الليبرالية مواجهة الهول الحقيقي لهذه الحرب، ذلك أن القيام بمثل هذا الأمر يتطلب منهم إعادة النظر في فرضياتهم الأكثر رسوخا حول دور أمريكا في العالم".

إظهار أخبار متعلقة



وفيما يلي نص المقال:
 
في السابع من يناير (كانون الثاني)، أعادت آن أبيلباوم، المؤرخة والكاتبة في ذي أتلانتيك، تغريد مقطع فيديو للصواريخ الروسية وهي تقصف مستشفى في أوكرانيا. بعد ذلك بثلاثة أيام، أعاد السفير الأمريكي السابق مايكل ماكفول، الأستاذ في جامعة ستانفورد والكاتب في صحيفة واشنطن بوست، عن قصد، تغريد لافتة تطالب بإرسال فلاديمير بوتين إلى لاهاي. 

وفي الخامس عشر من يناير (كانون الثاني)، ذكّر ماكس بوت، الكاتب في الواشنطن بوست، قراءَه بأنه طبقا للأمم المتحدة، فقد قتلت روسيا أكثر من عشرة آلاف مدني أوكراني.
 
لا ريب أن تلك التعابير عن السخط مبررة تماما، إلا أن ما يجعلها تبدو غريبة، هو أنه بعد ثلاثة شهور من الحرب في غزة، لم تزل آن أبيلباوم تحجم عن الإقرار عبر منصة إكس (التي كانت سابقا تعرف باسم تويتر)، حيث تدلي في العادة بآرائها، بأن إسرائيل هاجمت المستشفيات هناك. 

لم تشر إلى ذلك قط، رغم أن تحقيقا للواشنطن بوست في ديسمبر (كانون الأول)، خلص إلى أن إسرائيل "شنت مرارا وتكرارا، على نطاق واسع ضربات جوية على مواقع في جوار المستشفيات"، الأمر الذي أفضى إلى كارثة في قطاع الصحة العامة، حيث تقول منظمة الصحة العالمية؛ إنه لم يبق هناك سوى 15 مستشفى في غزة من أصل 36 مستشفى، وتلك لا تعمل إلا بشكل جزئي.
 
كما أن من يتابع ماكفول من القراء عبر منصة إكس، لن يعلم بأن إسرائيل تجري محاكمتها حاليا في لاهاي، حيث تتهم من قبل جنوب أفريقيا بارتكاب إبادة جماعية في غزة. 

أما بوت، فتطرق إلى الحرب الإسرائيلية بشكل مباشر، إذ إنه يدعمها إلى حد كبير، وقد قال في العشرين من ديسمبر (كانون الأول)؛ إن أحد الدروس المستفادة من الصراع، "الحاجة إلى وجود قدرة قوية في قطاع الصناعات العسكرية؛ لأن الصراعات ذات الكثافة العالية تستهلك دائما كميات ضخمة من الذخيرة".
 
أبيلباوم وماكفول وبوت، كلهم صقور ليبراليون، وكلهم يزعمون أنهم يدعمون سياسة خارجية مكرسة للدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان حيث أمكن ذلك، ولو تم ذلك في بعض الأوقات عبر فوهة البندقية.

(يمكن للخط الفاصل بين صقور الليبرالية والمحافظين الجدد أن يصبح ضبابيا، إلا أن صقور الليبرالية أكثر تعاطفا مع الدبلوماسية ومع المؤسسات الدولية، ويفضلون في العادة الديمقراطيين على الجمهوريين). 

قبل وقت ليس بالبعيد، كان صقور الليبرالية يعدون ضحية من ضحايا التدخل العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان وليبيا، وهي الحروب التي كانت توصف دعائيا بأنها تستهدف جلب الحرية لشعوب طالما عانت القهر، ولكنها في الواقع جلبت بدلا من ذلك الفوضى والدمار. (أنا نفسي كنت أعرف بأنني من صقور الليبرالية، إلى أن أجبرتني تلك الحروب على تغيير نظرتي للعالم).
 
ولكن في السنوات الأخيرة، أخذ صقور الليبرالية يستعيدون كثيرا من احترام الناس لهم ومن نفوذهم. 

لقد غذى ظهورهم من جديد، انكفاء واشنطن عن "الحرب على الإرهاب"، التي انتهت في نظر كثير من الأمريكيين عندما انسحبت القوات الأمريكية من أفغانستان في عام 2021، وعندما راحت أمريكا تركز اهتمامها على حرب باردة جديدة. ونظرا لأن الدكتاتورية تحكم في روسيا وفي الصين، ونظرا لأن موسكو وبيجين تهددان الديمقراطيات المستضعفة على حدودهما، يرى صقور الليبرالية أن الحفاظ على الحرية يتطلب ردع خصوم القوة الأمريكية الكبرى.
 
اكتسبت حجتهم زخما خاصا منذ غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022، حيث إنهم يرون فيه اختبارا لما هو آت من صراع على المسرح العالمي. 

في مقال نشر في سبتمبر (أيلول) 2022 تحت عنوان "صعود صقور الليبرالية"، أعلنت ذي أتلانتيك أن "الليبراليين الذين كانوا ذات يوم يحتجون ضد الحرب على العراق، باتوا يحثون واشنطن على إرسال المزيد من منصات إطلاق الصواريخ لإلحاق الهزيمة بالإمبريالية الروسية".

في فبراير (شباط) الماضي، أعلنت ذي كريتيك البريطانية أن "الغزو الروسي لأوكرانيا قد مهد صعود صقور الليبرالية".
 
يتمتع صقور الليبرالية بنفوذ خاص في واشنطن؛ نظرا لأن رؤيتهم للعالم تنسجم إلى حد بعيد مع رؤية إدارة بايدن.

ولذلك لم يكن مستغربا أن تتم دعوة كل من أبيلباوم وماكفول إلى مباحثات مغلقة، وليست للنشر، مع الرئيس. 

ذلك أن بايدن وكبار مستشاريه في السياسة الخارجية، يشتركون مع أبيلباوم في اعتقادها بأن صراع القوى العظمى اليوم يفرض على "العالم الديمقراطي" الوقوف في وجه "العالم الاستبدادي". 

وكما عبر عن ذلك بايدن في خطاب له حول أوكرانيا في عام 2022، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها "أن تترجم قوة الديمقراطيات إلى فعل؛ من أجل إحباط مخططات القوى الاستبدادية".
 
تشتمل هذه الرؤية للعالم على حقائق مهمة، من ذلك أن روسيا والصين أكثر سلطوية بكثير من الولايات المتحدة، ومن كثير من حلفائها الأساسيين في أوروبا وفي آسيا. 

كما أنهما أكثر سلطوية بكثير من كل واحد من الأنظمة الديمقراطية المعرضة للخطر في كل من أوكرانيا وتايوان، التي تستحق أن تخط طريقها الخاص بها نحو الحرية من العدوان الإمبريالي. 

وسواء اتفق المرء أو اختلف مع السياسات التي يدعو إلى تبنيها كل من أبيلباوم وبوت وماكفول في أوروبا الشرقية وفي شرق آسيا، فإن الغاية من هذه السياسات هي الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية،  وهو التزام يمتد ليشمل الولايات المتحدة، حيث يعد الكتاب الثلاثة من أشد معارضي دونالد ترامب.
 
إلا أن لدى صقور الليبرالية مشكلة، ألا وهي أن الأراضي المحاذية للحدود الروسية وللحدود الصينية ليست كل العالم. ففي جنوب المعمورة، بشكل خاص، لا تتطابق خارطة الحدود الجيوسياسية ما بين الولايات المتحدة وأعدائها بسهولة مع الحدود الأخلاقية التي تفصل ما بين الحرية والطغيان. 

عندما يتطرق النقاش إلى البلدان التي تقع خارج أوروبا أو خارج شرق آسيا، عادة ما يجد صقور الليبرالية صعوبة في الزج بها ضمن رؤية كونية تربط الولايات المتحدة وحلفاءها بقضية الدفاع عن الديمقراطية.
 
في مارس (آذار) 2022، على سبيل المثال، عندما قدمت أبيلباوم شهادة أمام مجلس الشيوخ حول ما أطلقت عليه "التحالف الاستبدادي الجديد"، أوردت ضمن القائمة كلا من الصين، وروسيا، وروسيا البيضاء، وفنزويلا، وكوبا، وكل هؤلاء أعداء للولايات المتحدة، مضيفة إليهم تركيا، الصديق العدو للولايات المتحدة.

ولكنها لم تأت على ذكر المملكة العربية السعودية، الحليف المهم للولايات المتحدة. والمحرج في الأمر، أن السعودية تأتي في أدنى المراتب حسب تصنيف "فريدام هاوس" للدول من حيث مستوى الحرية فيها، بل وتحتل السعودية مرتبة أدنى من كل من ذكرتهم من الأنظمة الاستبدادية ونددت بهم، باستثناء روسيا البيضاء، التي ربطت الباقين بها.
 
لم يسبق أن برزت إلى السطح بهذا الوضوح مثل تلك الالتواءات الأيديولوجية، كما حصل لها في أثناء الحرب الإسرائيلية في غزة. عادة ما يعبر صقور الليبرالية عن التزامهم بحقوق الإنسان، ومع ذلك، لا تجدهم يطالبون بإنهاء الحرب التي تقتل من الناس في اليوم الواحد أكثر مما قتل أي صراع آخر اندلع منذ بداية هذا القرن. 

لم يفعلوا ذلك لأنهم مثلهم مثل حلفائهم في إدارة بايدن، يتمسكون بسردية حول التفوق الأخلاقي للقوة الأمريكية تتحداها تلك الحرب.
 
يريد صقور الليبرالية الحفاظ على التفوق الأمريكي، الذي يرتبط في أذهانهم بالتقدم البشري. إلا أن المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية تكشف عن حقيقة بالغة القسوة، ألا وهي أنه في معظم العالم، ولعقود عديدة، استخدمت الولايات المتحدة قوتها ليس من أجل الدفاع عن الحرية، بل بهدف حرمان الشعوب الأخرى منها. 

ولهذا السبب، لا يستطيع صقور الليبرالية مواجهة الهول الحقيقي لهذه الحرب، ذلك أن القيام بمثل هذا الأمر، يتطلب منهم إعادة النظر في فرضياتهم الأكثر رسوخا حول دور أمريكا في العالم.
 
منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، لم يدّخر صقور الليبرالية وسعا في بذل كل جهد ممكن لقياس حرب إسرائيل في غزة على دفاع أوكرانيا عن نفسها في مواجهة الغزو الروسي، وهو قياس يجعل إسرائيل تبدو الضحية البريئة التي تتعرض لعدوان خارجي، ويجعل الولايات المتحدة تبدو واقفة إلى جانب حقوق الإنسان والقانون الدولي. 

في خطابه الذي ألقاه داخل المكتب البيضاوي يوم التاسع عشر من أكتوبر (تشرين الأول)، أعلن الرئيس بايدن أن "حماس وبوتن يمثلان تهديدين مختلفين، ولكنهما يشتركان معا في التالي: كلاهما يريدان إهلاك ديمقراطية مجاورة إهلاكا تاما".
 
كما أجرى صقور الليبرالية مقارنات مشابهة عبر وسائل الإعلام؛ ففي عمود نشر لها بتاريخ 9 أكتوبر (تشرين الأول)، رأت أبيلباوم أن "الغزو الروسي لأوكرانيا والهجوم المباغت الذي شنته حماس على المدنيين الإسرائيليين، كلاهما تعبير عن رفض سافر للنظام العالمي القائم على القواعد والأحكام."، وفي الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني)، وصف ماكفول حماس وروسيا بأنهما جزء من "اللاليبرالية الدولية" –التي تضم كلا من إيران وحزب الله وأحيانا الصين–، وهو تكتل "التم شمله تارة أخرى من أجل شن هجوم على إسرائيل الديمقراطية".

أما بوت، فأدلى بدلوه في العشرين من ديسمبر (كانون الأول) قائلا؛ إنه "ينبغي أن تذكر الحربان في غزة وأوكرانيا الحكام الغربيين الراغبين في الإرضاء، بأن أعداءنا لا يشاطروننا قيمنا الليبرالية".
 
عندما ينعت كل من أبيلباوم وماكفول وبوت حركة حماس بأنها حركة لا ليبرالية لا تحترم حقوق الإنسان، فهم محقون؛ ذلك لأن أيديولوجيتها الإسلامية لا تنسجم مع الحرية والمساواة الفردية في ظل القانون، ولأنها انتهكت بشكل سافر قواعد الحرب عندما قتلت المدنيين يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول). 

ولكن تصوير حرب إسرائيل كما لو كانت معركة أخرى بين الغرب الديمقراطي الملتزم بالقواعد والأحكام من جهة، ومحور اللليبرالية من جهة أخرى، الذي يمتد من بيجين إلى موسكو إلى طهران إلى مدينة غزة، فلا بد أن الصقور الليبراليين يجهلون الحقائق الأساسية حول الدولة اليهودية.
 
حينما يسرد كل من أبيلباوم وبوت الجرائم الروسية بالتفصيل، تجدهما شغوفين بالاستشهاد بمنظمة هيومان رايتس ووتش، أما ماكفول، فيشيد بعمل منظمة العفو الدولية. ولكن حين يتعلق الأمر بإسرائيل، تصبح تقارير هذه المنظمات الرائدة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان غير ذات صلة. 

فطبقا لهؤلاء الكتاب، "إسرائيل ديمقراطية تحترم النظام الدولي القائم على القواعد والأحكام وتتبنى القيم الليبرالية". 

هذا على الرغم من أن منظمة هيومان رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية كلاهما تقولان؛ إن إسرائيل تمارس الفصل العنصري (الأبارتيد)، ولم تزل منذ خمسة عشر عاما تحاصر ملايين الفلسطينيين في قطاع غزة، الذي أحالته، حسبما تقول المنظمتان، إلى سجن مكشوف.
 
عندما يتحدثون عن أعداء أمريكا، عادة ما يحذر صقور الليبرالية، أفراد الشعب الأمريكي من السماح للانطباعات الأيديولوجية المشكلة مسبقا لديهم، بأن تعميهم عن الوقائع القاسية في الميدان.

ولكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فإنهم يمارسون بالضبط ما ينهون عنه. لقد كتبت أبيلباوم في السنوات الأخيرة حول النزاع الدائر بين الديمقراطيين الليبراليين والسلطويين الشعبويين في بولندا والمجر والولايات المتحدة. 

ثم بعد زيارة قامت بها إلى إسرائيل في الصيف الماضي، وجدتها تطبق النموذج نفسه على الدولة اليهودية، حيث أعلنت أن مشروع الإصلاح القضائي الذي يسعى إليه بنيامين نتنياهو، يجازف بخلق "إسرائيل غير ديمقراطية، وتحويلها إلى نظام استبدادي بحكم الأمر الواقع"، ولكن مثل هذا الخط السردي لا يجدي إلا إذا كنت تتجاهل الفلسطينيين. 

بالنسبة لما يزيد عن سبعين بالمائة من الفلسطينيين الذين يعيشون تحت سيطرة إسرائيل –أولئك الذين هم في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، الذين يعيشون أو يموتون بناء على أفعال حكومة لا يحق لهم التصويت في انتخاباتها–، فإن إسرائيل دولة مستبدة، اليوم قبل الغد.
 
من بين النعوت المفضلة لدى أبيلباوم وماكفول وبوت، التي يطلقونها على الأمريكيين الذين لا يتفقون معهم حول روسيا، كلمة "ساذج". 

ولكن عندما يصفون إسرائيل، فإنهم يستحضرون أرض أحلام، يكون الفلسطينيون فيها إما غير موجودين، أو على وشك أن يحصلوا في القريب العاجل على دولة خاصة بهم، فقط لو أنهم تهذبوا وتصرفوا بأدب. 

إظهار أخبار متعلقة



في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني)، قال ماكفول؛ إنه لو تخلت حماس عن السلطة وأطلقت الرهائن الإسرائيليين، فإنها بذلك سوف "تمنح زخما جديدا للسيادة الفلسطينية"، ولكن إسرائيل لم تنتخب رئيس وزراء إسرائيلي يدعم السيادة الفلسطينية منذ خمسة عشر عاما. 

وحتى خصم نتنياهو، الوسطي بيني غانتس، يتوخى الحذر وهو يتحدث عن ذلك، حيث يقول؛ إنه ولئن كان يؤيد وجود "كيان" فلسطيني في الضفة الغربية، إلا أنه يرى أن هذا الكيان لن يحظى بصلاحيات الدولة.
 
ومع استمرار دوران عجلة الحرب الطاحنة في غزة، يغدو أصعب فأصعب تصوير إسرائيل على أنها تجسيد للغرب الليبرالي الديمقراطي الملتزم بالقواعد والأحكام. 

وعلى الرغم من بعض التحذيرات الأولية، اختار كل من أبيلباوم وماكفول غض الطرف إلى حد كبير. في الثالث عشر من أكتوبر (تشرين الأول)، اقتبست أبيلباوم من كلام زميلها في ذي أتلانتيك جورج باكر، الذي حث الإسرائيليين على عدم "افتراض أن دعم العالم سوف يستمر يوما إضافيا واحدا، فيما لو وردت أخبار تفيد بوقوع أعداد كبيرة من الوفيات بين المدنيين في غزة". 

وفي التاسع والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول)، غردت مقالا نشر في ذي نيويوركر حول الحياة داخل القطاع. 

ولكن في الشهور التي تلت ذلك، ومع ورود أخبار بوقوع أعداد مرعبة من الوفيات في صفوف المدنيين، لم تقل أبيلباوم الكثير. 

ثم في التاسع والعشرين من ديسمبر (كانون الأول)، وفي السابع من يناير (كانون الثاني)، أعادت تغريد خبر يفيد بأن موسكو ضربت أهدافا مدنية في أوكرانيا. 

ولا يوجد فيما نشرته ما يشير إلى أن إسرائيل فعلت الشيء نفسه في غزة.
 
بعد مضي أربعة أيام على اندلاع الحرب، ناشد ماكفول إسرائيل بأن "تلتزم بالقانون الدولي، وبأن تقلل من الإصابات في صفوف المدنيين وما ينالهم من معاناة". 

وفي مطلع نوفمبر (تشرين الثاني)، أعلن أن إدارة بايدن كانت "محقة في الضغط على نتنياهو حتى يتخذ تدابير أكثر وأقوى من أجل تقليص عدد الوفيات في صفوف المدنيين"، بل وذهب إلى حد القول بأنه "ينبغي أن تكون المساعدات الأمريكية في المستقبل مشروطة". 

ولكن منذ ذلك الحين، ومع تجاوز عدد الإصابات بين المدنيين العشرين ألفا، ورغم اتهام منظمات حقوق الإنسان لإسرائيل بأنها تنتهك القانون الدولي، لم يستخدم ماكفول حسابه على منصة إكس، سواء لإقرار الدعوة إلى وقف لإطلاق النار، ولا لإقرار التشريع الفعلي المطلوب من أجل فرض شروط على المساعدات، الذي صوت عليه مجلس الشيوخ.
 
ومثله مثل أبيلباوم، لم ينطق ماكفول ببنت شفة. وكان في الرابع من ديسمبر (كانون الثاني) قد أشاد بالسيناتور جيم ريش لتنديده الشديد "بوحشية روسيا، وما تستمر في ارتكابه من جرائم حرب ضد الشعب الأوكراني.". 

ولكنك لن تعرف من كتابات ماكفول في حساباته على السوشال ميديا أن منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش، بل وحتى منظمة حقوق الإنسان الرائدة في إسرائيل، بيتسيلم، كلها اتهمت إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في غزة.
 
أما بوت، فكان أكثر صراحة؛ لم يتجاهل التدمير في غزة، بل برره، وبينما أقر بأن "هذه مأساة عظيمة تنزل بساحة الشعب في غزة"، إلا أن بوت زعم في الخامس عشر من يناير (كانون الثاني)، أن "اللوم لا بد أن يقع أولا على حماس؛ لأنها هي التي شنت هجوما غير مبرر على إسرائيل، وهي التي تستخدم المدنيين دروعا بشرية".
 
يتطلب توصيف مجزرة حماس بأنها "غير مبررة" –ومن هنا فهي تشبه الغزو الروسي لأوكرانيا–، تجاهل أن إسرائيل لم تزل تحتل قطاع غزة منذ عام 1967، وتفرض عليه الحصار (بمساعدة من مصر) منذ عام 2007. 

إن تبرير ما تمارسه إسرائيل من تدمير بحجة أن حماس تختبئ بين المدنيين، هو بمنزلة تبرير للقتل الجماعي للمدنيين في معظم الحروب التي تشن ضد خصم يخوض حرب عصابات، وذلك لأنه كما أعلن ذات يوم ماو تسيتونغ: "يجب على الفدائيين أن يتحركوا بين الناس كما تسبح السمكة في مياه البحر". 

وبالفعل، في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، استخدمت الولايات المتحدة حجة بوت نفسها حول "الدروع البشرية"؛ لتبرير قصف القرى التي كان يلجأ إليها الفيتكونغ كملاذ لهم، وهي الحجة نفسها التي استخدمتها روسيا مرارا وتكرارا لتبرير قتل المدنيين في أوكرانيا.
 
كما يرفض بوت اتهام جنوب أفريقيا لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة؛ لأن موت المدنيين هناك، بحسب ما يقول، يمثل أقل من واحد بالمائة من مجموع السكان في القطاع"، ويقارن هذه التهمة التي لا أساس لها بزعمه مع ادعاء الحكومة الأمريكية بأن الصين ترتكب إبادة جماعية ضد الإيغور، وهو ما يشير إليه معربا عن موافقته عليه.

ولكن عندما اتهمت وزارة الخارجية في عام 2021 الصين بارتكاب إبادة جماعية، لم تزعم أن بيجين قتلت أي نسبة معينة من السكان الإيغور. 

بل لم تناقش القتل الجماعي إطلاقا، وإنما تحدثت عن "التذويب القسري والسعي في نهاية المطاف إلى طمس مجموعة عرقية ودينية مستضعفة بشكل تام"، من خلال التعقيم والإجهاض القسري، وإجبار الإيغور على الزواج من غير الإيغور، وفصل الأطفال عن والديهم، وحرمان الناس من حرية التعبير وحرية التنقل وحرية العبادة، ومن خلال السجن والتعذيب الجماعي في معسكرات الأعمال الشاقة. 

بمعايير بوت، لا تشكل هذه الفظائع –التي أطلق عليها بعض الخبراء مصطلح "الإبادة الثقافية الجماعية"– إبادة جماعية. 

بل إن بوت باتهامه لجنوب أفريقيا بممارسة ازدواجية المعايير، يكشف دون أن يقصد عن ممارسته هو لازدواجية المعايير، حيث يستخدم تعريفا للإبادة الجماعية في حالة أعداء أمريكا، وتعريفا آخر في حالة أصدقائها.
 
ما السبب في أن المعلقين الذين يكتبون بعاطفة جياشة عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها روسيا ويرتكبها غيرها من خصوم الولايات المتحدة، يجدون صعوبة بالغة في معارضة حرب تعرض نصف مليون من الفلسطينيين لخطر المجاعة، بحسب ما أعلنت عنه الأمم المتحدة نفسها؟ ليس ذلك لأن أبيلباوم وماكفول وبوت يعتقدون بأن أمريكا لا ترتكب ظلما، بل العكس من ذلك، فقد حذروا من أن الولايات المتحدة في ظل حكم دونالد ترامب، قد تنزلق نحو الجانب المظلم وتنضم إلى معسكر المستبدين في العالم.
 
ولكنهم يروون حكاية معينة عن أمريكا، وعن الحياة في القرن الماضي، أتى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ليقلبها رأسا على عقب. 

تقول الحكاية؛ إن بروز أمريكا كقوة رائدة في العالم أوجد عالما أكثر حرية وأكثر التزاما بالقانون. 

ولذلك، تشيد أبيلباوم بما قالت؛ إنه "السلام الأمريكي الذي رافق تشكل النظام العالمي القائم على القواعد والأحكام". 

بينما يقول بوت؛ إنه بعد الانتصار في الحرب العالمية الثانية، تجنبت الولايات المتحدة "تعقب مصلحتنا الذاتية الضيقة"، وسعت بدلا من ذلك إلى إيجاد "مؤسسات دائمة مثل الناتو والاتفاقية العامة حول التعرفة والتجارة (التي سبقت تشكل منظمة التجارة العالمية)، من أجل نشر الرفاه والأمن وتوفيرهما لجميع الناس". 

ويصر ماكفول على أن "الولايات المتحدة، ولسنوات طويلة، لم تمارس لا ضم الأراضي ولا الاستعمار، ولا تهاجم البلدان الديمقراطية، ولا تستخدم الإرهاب عن قصد كوسيلة للحرب".
 
ولكن هناك الكثير من الأماكن، وخاصة في الجزء الجنوبي من المعمورة، التي لا تتفق مع ما ترويه هذه الحكاية حول القوة الأمريكية التي تنتج التقدم الأخلاقي. 

لا يوجد في الحكاية ما يشير إلى اثنتين وستين مرة، بحسب ما يقوله الباحث في العلوم السياسية دوف ليفين، من تدخل الولايات المتحدة في الانتخابات التي نظمت في بلدان أخرى ما بين عام 1946 وعام 1989، ولا حقيقة أن العديد من الأحزاب اليسارية التي عملت الولايات المتحدة على تقويضها وتخريبها، بحسب ما ورد في كتاب ليندسي أوروك بعنوان "التغيير السري للأنظمة"، "يقال إنها كانت قد ألزمت نفسها بالعمل ضمن إطار ديمقراطي، وأنه، في بعض الحالات، كان صناع السياسة في الولايات المتحدة يقرون بهذه الحقيقة".

لا تشير الحكاية إلى تواطؤ الولايات المتحدة في منتصف الستينيات في قتل إندونيسيا لما يقرب من مليون شخص، زُعم حينها بأنهم يساريون. 

كما لا تشير إلى الدور الذي أدته المخابرات المركزية الأمريكية (السي آي إيه)، في مساعدة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في اعتقال نيلسون مانديلا. 

كما لا تنسجم الحكاية مع قرار إدارة نيكسون تسليح حرب الباكستان، فيما أصبح بنغلاديش حينما أخبرهم كبير الدبلوماسيين الأمريكيين على الأرض بأن الباكستانيين كانوا يرتكبون الإبادة الجماعية، ولا مع إصرار إدارة الرئيس ريغان على توريد السلاح إلى الرئيس إفرين ريوس مونت، الذي كانت محكمة في غواتيمالا قد أدانته بارتكاب إبادة جماعية؛ بسبب حملته للقضاء على هنود مايا إيكسيل في بلاده.
 
لا تتحدث الحكاية عن العقوبات التي فرضتها إدارتا جورج إتش دبليو بوش وبيل كلينتون على العراق، والتي حذر حينها منسق الأوضاع الإنسانية التابع للأمم المتحدة في ذلك البلد من أن العقوبات توشك أن "تدمر مجتمعا بأسره". 

كما لا تتحدث الحكاية عن مشاركة إدارة أوباما مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في فرض حصار على اليمن وشن قصف عشوائي عليه، مما أسفر عن ترك 18 مليونا من السكان الذين يعدون 28 مليونا بلا مصدر معتمد للغذاء.
 
ما المشكلة الإسرائيلية الفلسطينية إلا جزء من ذلك التاريخ الأسود لحقبة التفوق الأمريكي التي يحتفي بها صقور الليبرالية ويرغبون في الحفاظ عليها. لقد استخدمت الولايات المتحدة، على مدى عقود، قوتها العسكرية وعضلاتها الدبلوماسية التي لا تضاهى، من أجل ضمان أن تتمكن إسرائيل في مأمن من المساءلة والمحاسبة؛ من حرمان ملايين الفلسطينيين من أهم حقوقهم الأساسية: المواطنة، والمساواة أمام القانون، وحرية الحركة، وحق التصويت.
 
في عام 2020، جمدت الولايات المتحدة أموال مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، جزئيا انتقاما منها بسبب قرارها فتح تحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية. في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يصوت كل العالم – بما في ذلك تقريبا جميع الديمقراطيات على وجه المعمورة – بانتظام لصالح التنديد بالمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. 

كانت نتيجة التصويت في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي 145 إلى 7. ولكن الولايات المتحدة تفرغ هذا الإجماع الحقوقي العالمي من كل معنى فيصبح بلا جدوى، من خلال اللجوء مرة تلو الأخرى إلى استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. كثير من الولايات الأمريكية تحظر على الأفراد أو المنظمات دعم مقاطعة إسرائيل –أو حتى مجرد مقاطعة المستوطنات الإسرائيلية–، وتعاقب من لا يلتزم بحرمانه من إجراء أي معاملات مع حكومة الولاية.
 
هذا ليس مجرد أفعال صادرة عن السلطويين، أصحاب شعار "اجعل أمريكا عظيمة تارة أخرى". 

إظهار أخبار متعلقة



هذا الجهد المكثف لحماية نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، يمارس بشكل واسع داخل الحزبين، ولكم مورس على امتداد عهود العديد من الرؤساء. ويشمل ذلك الجهد سياسيين ممن يعتقد كل من أبيلباوم وماكفول وبوت أنهم يجسدون أفضل ما في أمريكا –أولئك الذين يكرسون أنفسهم لدعم أوكرانيا والحيلولة دون وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض–، وعلى رأسهم جميعا جو بايدن. 

منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وصل الدعم الأمريكي غير المشروط تقريبا، والمستمر منذ عقود، ذروته بمسارعة بايدن إلى شحن الأسلحة إلى إسرائيل حتى وإن كانت إسرائيل، بحسب ما تقوله أوكسفام، تقتل في اليوم الواحد أكثر من خمسة أضعاف عدد من تقتلهم روسيا في أوكرانيا. 

وكل هذا ينال من الثنائية الأخلاقية التي عليها تنبني رؤية صقور الليبرالية للعالم. كلما كان المرء نزيها في مواجهة الفظائع التي تحدث في غزة، زادت صعوبة رسم خط مضيء بين الطريقة التي تستعرض بها أمريكا قوتها وطريقة أعدائها في ذلك.
 
في عام 2021، تحسرت أبيلباوم على حقيقة أن "جزءا من اليسار الأمريكي، تخلى عن فكرة أن الديمقراطية تنتمي إلى قلب السياسة الخارجية الأمريكية". 

وخمنت أن تأكيد اليسار على خطايا أمريكا –الاعتقاد المزعوم بأن "تاريخ أمريكا هو تاريخ الإبادة الجماعية والرق والاستغلال ولا أكثر من ذلك–، أقنع كثيرا من التقدميين بأن الولايات المتحدة تنقصها السلطة الأخلاقية لمساعدة الناس الذين يعانون من "ظلم شديد" في الخارج.
 
ولكن نظرا لأن أبيلباوم تركز على المظالم التي يرتكبها أعداء أمريكا، فهي تتجاهل إمكانية أن ينهض التقدميون الأمريكيون تضامنا مع الشعوب التي يضطهدها أصدقاء أمريكا، وإمكانية أن يجدوا الإلهام ليس في الاحتفاء بخصلة أمريكية سابقة، وإنما من الأجيال السابقة التي ناضلت ضد ما كانت ترتكبه أمريكا من إبادة جماعية ورق واستغلال.
 
في مقال لها في عام 2021، انتقدت أبيلباوم التقدميين؛ لأنهم لا ينتجون "شيئا مشابها للحركة المناهضة للأبارتيد في ثمانينيات القرن الماضي"، وها هم يفعلون ذلك الآن.

إذا ما تمكن جيل جديد من الأمريكان أخيرا من تحويل السياسة الأمريكية ضد الأبارتيد في إسرائيل/ فلسطين، كما فعل أسلافهم حين حولوا السياسة الأمريكية ضد الأبارتيد في جنوب أفريقيا، فلن يكون ذلك بسبب تمجيدهم للقوة الأمريكية، وإنما لأنهم واجهوا "المظالم الشديدة" التي ترتكب برعاية أمريكية، والتي عادة ما يشوش عليها صقور الليبرالية أو يتجاهلونها.
التعليقات (0)