كتاب عربي 21

تونس ... الدبلوماسية العرجاء

محمد هنيد
1300x600
1300x600
وزارة الخارجية أو "وزارة الشؤون الخارجية" هي أخطر الوزارات على الإطلاق سواء كان ذلك في الدول المتقدمة أو الدول المتخلفة مثل تونس التي تحصد اليوم زرع سنواتها العجاف من نظامين استبداديين نجحا -منذ ما يسمى بالاستقلال عن الاستعمار الفرنسي- في تخريب كل مظاهر السيادة الوطنية من اقتصاد وسياسة وثقافة ومعرفة وقيم...

في الدولة المتقدمة تمثل الدبلوماسية أخطر الأذرع الضاربة والقادرة على تمكين الدولة المتقدمة ـ وهي عادة دولة استعمارية بشكل عسكري أو شكل أكثر ليونة ـ من تحقيق اختراقات في الدول الأخرى وخلق تحالفات تسمح لها بدعم ركائز السيادة والاستقلال لديها مثل المحافظة على أسواقها الخارجية والتزود بالطاقة والمواد الأولية.  الدبلوماسية بهذا التعريف هي جيوش ناعمة تخوض معارك وحروب باردة وهي مسلحة بالقدرة على المناورة وعلى الهجوم والدفاع وليست الحرب العسكرية إلا نتيجة حتمية لفشل الحروب الدبلوماسية.

لكن في الدولة الضعيفة أو المتخلفة كما هو حال تونس وأغلب الدول العربية خاصة الاستبدادية منها فإن دور الدبلوماسية الأساسي يتمثل في منع الاختراقات أو الحد منها والتخفيف من الأزمات قدر الإمكان ومنع صناعة الأعداء بالقدر الممكن.  دبلوماسية العالم الثالث هي الدبلوماسية القادرة على النزول بمنسوب الأزمات إلى النقطة الصفر أو ما يعادلها وهو أقصى حدود النجاح لدبلوماسية الدول الفقيرة.

خاصية مركزية وشرط أساسي في وزارة الخارجية وفي وزير الخارجية وهو أن يكون الأبعد عن الأيديولوجيا السياسية وعن الانتماءات الحزبية الضيقة لأن ذلك يسمح له بهامش كبير من المناورة والعمل أما وزير الخارجية الحزبي فإن عمله سيكون أصعب بسبب ضيق الأفق من ناحية وعلوية أدوات القراءة ورد الفعل من ناحية أخرى بسبب السقف الأيديولوجي المرتفع. 

في تونس ما بعد الثورة نشهد اليوم أكفأ الدبلوماسيات في صناعات الأزمات وفي تهديد الأمن الوطني والاجتماعي بشكل غير مسبوق. فبعد الأزمة الخانقة مع دولة تركيا و التي تسبب فيها "وزير خارجية الداخل" كما يسميه النشطاء التونسيون على مواقع التواصل الاجتماعي  -لأن وزير خارجية الخارج شخص آخرـ  ها هي أزمة أخرى مع ليبيا تهدد مصير آلاف العائلات التي تعمل في هذا البلد الجار.

قريحة الوزير المشهور بعمقه الإيديولوجي اليساري  ذي النزعة الاستئصالية البورجوازية وما تحمله من احتقار وتعال مرضيين عن الطبقات الفقيرة  جادت بفكرة " تأشيرة الجهاد " التركية وهو يجهل أن التونسيين يسافرون إلى تركيا دون تأشيرة. تصريح أساء كثيرا للعلاقات التونسية التركية لما تضمنه من اتهام صريح لتركيا بدعم الإرهاب والجماعات الإرهابية في سابقة خطيرة من نوعها لم تجرؤ عليها غير دولة الكيان الصهيوني عبر وزير خارجيتها "أفيقدور ليبرمان"  ـحارس المراقص الليلية السابق في مولدافياـ عندما اتهم مع رئيس وزرائه "ناتن ياهو" تركيا وقطر بدعم الإرهاب ويقصد به دعم تركيا وقطر لما يرهب العدو الصهيوني حقا أي رغبة الشعوب العربية في النهضة والتحرر والخروج من ربقة الاستبداد.   

اليوم يقرر الوزير إغلاق القنصلية العامة في ليبيا، مطالبا التونسيين المتواجدين هناك بالعودة إلى تونس. القرارات كارثية بأتم معنى الكلمة وغير سيادية بالمرة لأنها تتعامل بمنطق انفعالي ـ أي غير ديبلوماسي ـ مع قضية  اختطاف دبلوماسيين تونسيين من طرف عناصر مسلحة في ليبيا ردا من هذه العناصر على اعتقال أحد قيادييها. صحيح أن عملية الاختطاف مدانة بكل الوسائل لكن ردة الفعل مدانة كذلك لأسباب كثيرة.

أهمها أن تاريخ العلاقات التونسية الليبية أعمق من الممارسات السياسية التي تبقى مهما تغيرت الظروف ممارسات ظرفية مقارنة بالمعطيات الثابتة خاصة إذا أدركنا أن جزءا كبيرا من سكان الجنوب التونسي هم من أصول ليبية، والعكس صحيح أيضا، وليس أدل على ذلك من نسبة الألقاب العائلية المشتركة بين البلدين. 

من جهة أخرى أكثر دقة في القراءة، فإن مصطلح "الشعب التونسي" و"الشعب الليبي" لا وجود لهما إلا على مستوى التسميات، بل هناك شعب عربي في ليبيا وشعب عربي في تونس أي أن معاهدة "سايكس بيكو" وكل التقسيمات الاستعمارية للنظام الإقليمي الاستبدادي العربي لم تنجح في فصل الشعبين حضاريا وثقافيا.  

لم تنجح في ذلك رغم كل المجهودات الجبارة التي قام بها " إعلام العار المركزي " في تونس من أجل الإساءة لليبيين والتهكم عليهم وازدرائهم في خطاب متعال يستنسخ تمثيلا استعماريا لصورة العربي المسلم. 

مئات الآلاف من العائلات التونسية خاصة من الجنوب التونسي الفقير ومن الوسط والشمال الغربي تعيش في ليبيا وتعمل هناك وليبيا هي مورد الرزق الوحيد لمئات الآلاف من العائلات الأخرى التي تعمل في التجارة بين البلدين. 

كل هذه المعطيات تؤكد تفاقم أزمة الخارجية التونسية التي يغيب وزيرها عن أهم اللقاءات الخارجية الدولية ويعوَّض بآخر في حين يكتفي هو بخلق الأزمات الواحدة تلو الأخرى في تجاهل تام لأبسط الأعراف الدبلوماسية وفي إنكار صريح لمصالح الآلاف من العمال التونسيين.  
التعليقات (0)