كتاب عربي 21

الأميرة تواجه الضباع

محمد هنيد
1300x600
1300x600
مازالت أصداء الانفجار الكبير الذي أحدثه الربيع العربي ومجمل الثورات المرتبطة به تتفاعل في أكثر من منطقة عربية عرفت أو لم تعرف تغيرات سياسية بفعل هذا الانفجار الكبير. فالموجة الثورية الأولى بصدد الانحسار بعد أن أنجزت الكثير الكثير في الدول التي شملتها خاصة على مستوى البنية الفوقية أي على مستوى الأفكار والوعي بطبيعة النظام الاستبدادي العربي وخصائصه المميتة. الانحسار عرف أشكالا وأنساقا مختلفة حسب طبيعة النظام وحسب منسوب الدموية والقمع التي يرتكز عليها نظامه الأمني والسياسي وارتباطاته الخارجية. 

في تونس ـ مهد ربيع العرب وفاتحة التحول النوعي في الوعي العربي الثوري الجديد ـ لا تزال الموجة الأولى التي دشنها الأحرار في "سيدي بوزيد" و"القصرين" و"تالة" و"الرقاب" فجر السابع عشر من أخر شهور سنة 2010 تتفاعل في مد وجزر بين قوى الثورة وأنياب الثورة المضادة. 

اليوم تنصب نيران الدولة العميقة تجاه "هيئة الحقيقة والكرامة" برئاسة السيدة المناضلة "سهام بن سدرين" بهدف دكّ واحد من آخر معاقل المدّ الثوري التي ترعب منظومة العصابات المتحكمة في مفاصل الدولة والمجتمع. 

رئيسة الهيئة لمن يعلم ـ وخاصة لمن لا يعلم ـ أميرة من أميرات النضال النسائي في تونس خلال سنوات الجمر في مواجهة النظام البوليسي الدموي لحكم الرئيس الهارب "بن علي". هي من نوع المناضلين الصامتين الذين لم يطالبوا بمنصب أو سفارة أو بوزارة أو بمقعد في "برلمان شهود الزور" مقابل "تاريخهم النضالي" مثلما فعلت كل نخب "بن علي" من جامعيين وتجار حقوق الإنسان وسماسرة الدين والشعارات.

ما عراه الربيع العربي في تونس مكسب جليل بل قُلْ هو أعظم مكاسب الربيع التي أذابت كل المساحيق والأقنعة المطلية بألوان النضال الزائف والمعارضة المغشوشة لنكتشف أن الاستبدادَ كامنٌ في صفوف النخب والأحزاب التي صنعها النظام الرسمي العربي لنفسه إيهاما بالتعددية ورسم لها الخطوط الحمراء التي لا يمكن لها أن تتعدّاها.  

فلما سقط رأس النظام عملت هذه الأحزاب على تمكين كيانات الدولة العميقة من استعادة المشهد من جديد وساعدتها عن قصد أو عن غير قصد في الانقلاب على المطالب الثورية للجماهير المسحوقة من خلال تكالبها الفطري على السلطة وعلى المناصب والامتيازات. هذا الواقع أفرز شعارا افتراضيا رائعا اكتسح مواقع التواصل الاجتماعي بعد الثورة وهو شعار " بكم كيلو النضال ؟" في إشارة لا تحفي إلى انتهازية المناضل المزيف وتاجر الدين ونخاس القومية والعروبة وسمسار الصراع الطبقي وحقوق الإنسان. 

هذا الشعار يفضح كم تاجرت "نخب العار التونسية" ـ ومن ورائها العربية ـ بفكرة النضال والمقاومة في استنساخ غير بعيد عن " نظام المقاومة والممانعة " الذي انكشف هناك ـ في "دوما السورية" مثلا ـ عن أبشع الأنظمة الدموية في التاريخ وانكشف هنا عن أكثر النخب جوعا وتسلقا.  

"هيئة الحقيقة والكرامة" هي هيئة مكلفة جماهيريا وثوريا بالنظر في ملفات الفساد وفي جرائم التعذيب والاختفاء القسري والقتل التي ارتكبها النظام السابق خلال ما يزيد عن عقدين من الزمان. وقد استقبلت الهيئة آلاف الملفات المتعلقة بالجرائم السابقة والتي ينتظر أصحابها ـمن ضحايا الاستبدادـ أن تنصفهم وأن ينالوا حقهم من العدالة الانتقالية الناشئة رغم كل الصعوبات التي تحف بها. 

تنتظر عائلات الضحايا بعض الإنصاف بعد أن تنكرت " نخب الأيديولوجيا السياسية المتعفنة" لمطالب البؤساء وفضّلت الارتماء في أحضان جلاد الأمس وعلى رأسهم قيادات " حركة النهضة " المحسوبة زيفا على التيار الإسلامي بدعوى الواقعية والحكمة التي لم تورّث في كل الأماكن التي مروا بها غير المجازر والانقلابات ودفن الثورات من الجزائر إلى مصر إلى تونس. 

اليوم يرتفع منسوب الثورة المضادة في تونس التي يؤشر عليها "قانون المصالحة الاقتصادية" وهو بمثابة آخر المسامير في نعش الثورة لأنه سينقذ من قامت الثورة من أجل القضاء عليهم ألا وهم "عصابات السرّاق" كما عبرت عن ذلك أبرز شعارات الثورة التونسية الخالدة " التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق". عصابة السراق في تونس هم مجموعة " المجرمين الاقتصاديين " من رجال النهب المنظم لثروات الدولة والوطن خلال حكم بورقيبة 1956 1987 وحكم بن علي 1987 2010 وهم من موّل الحملة الانتخابية النيابية والرئاسية لحزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" في ثوبه الجديد ومكنه من الانقلاب على الثورة من داخل صناديق الاقتراع. 

هاته العصابة إنما تخشى المحاسبة والقصاص باعتبارهما مطمح كل ثورة قامت من أجل الحرية والعدالة ولهذا السبب انطلقت منذ مدّة في تونس حملة مسعورة من أجل الطعن في شرعية الهيئة وفي شرعية رئيستها متهمين إياها بتهم سخيفة كالفساد المالي وغيرها من التهم التي تتقنها أنظمة العصابات العربية. الحملة نجحت في اختراق الدائرة الضيقة للهيئة حيث كشفت وثائق مسربة أخيرا عن تورط نائب رئيسة الهيئة ـمن تجار النضال القدامىـ في الوشاية بزملائه مما فجر في الأوساط السياسية فضيحة يندى لها الجبين. اليوم تسعى دولة العصابات إلى استهداف رئيسة الهيئة وإلى تهديد المسار الانتقالي وضرب العدالة الانتقالية وهي بذلك ترتكب خطأ قاتلا. 

ضربُ الهيئة وضربُ رئيسة الهيئة وتبيضُ العصابات ونهبُ مال الشعب التونسي وبيعُ السيادة الوطنية لمخابرات السفارات الأجنبية هو الكفيل بتجديد شروط الثورة والغضب الشعبي الذي إن استعاد دورته الثانية فلن يرحم أحدا خاصة من ضباع الأعماق الذين عادوا مؤخرا إلى السطح بعد انحسار الموجة الأولى.
التعليقات (0)