قضايا وآراء

بوليموقراطيّة لا ديمقراطيّة!

1300x600
(1)
الديمقراطية "ليست النظام الأمثل، لكنها الأفضل بين أنظمة الحكم".. يقول الأكاديميون والباحثون.. لماذا يا أساتذة؟!.. "لأنها تُصلح من نفسها، وقادرة على علاج عيوبها".. يجيبون! فهل هذا صحيح؟!.. كلا البتة.. أجيب..

فمِمّا بات معلوما بالضرورة لدى العامة، أن "الديمقراطية" كلمة لاتينية قديمة، مكوّنة من شِقين "ديموس" وتعني الشعب، و"كراتوس" وتعني السلطة أو الحكم.. أي "حكم الشعب" أو "حكم الشعب لنفسه".. وكانت "الكلمة- الاصطلاح" عنوانا للآلية أو النظام الذي يُسيِّر شؤون ما كان يُعرف بـ"المدينة– الدولة" في بلاد الإغريق، قبل نحو خمسة قرون، من ميلاد السيد المسيح عليه السلام.

فهل كان الشعب يحكم نفسه فعلا؟.. كلا!.. كان يُستثنى العبيد والنساء من التصويت. وإذا كان مفهوما استثناء العبيد (لكونهم ليسوا أحراراً)، فلماذا تُستثنى النساء؟! وإذا كان استثناء النساء يعود لنظرة المجتمع للمرأة، في ذلك الوقت، فكيف سمحت "الديمقراطية الأمريكية" لنفسها باستبعاد المرأة من التصويت، في كثير من الولايات، حتى عام 1920 من القرن الماضي؟ وكيف رضيت بوضع العراقيل أمام "السود"؛ لإعاقتهم من التصويت، حتى عام 1965 من القرن نفسه؟!

إذن، هناك إشكالية (من حيث المبدأ) في التسمية التي لا تنطبق على المُسمى، ولا تدل عليه دلالة منطقية! فالحقيقة أنها (حتى الأمس) كانت "حكم البيض" أو "وايتوقراطية"، إن صحت التسمية، وليس "حكم الشعب"، و"حكم الذكور" أو "ميلوقراطية"، إن صحت التسمية أيضا. فأين أساتذتنا المفكرون والأكاديميون والباحثون من هذه الإشكالية، التي تجرد المصطلح من دلالته، وتنسفه من جذوره غير الموجودة أصلا؟!

للأسف، فإن السواد الأعظم من المفكرين والأكاديميين والباحثين يتعاملون مع "العلوم الإنسانية" التي هي منتج بشري خالص، معاملة الأحبار (من مختلف الديانات) مع النصوص المقدسة، بصرف النظر عما إذا كانت مقدسة فعلا أم لا.. ومن ثم، يقضون أعمارهم في التنظير والتأصيل لما هو مشكوك في "منطقيتة" أصلا! ويورِّثون ذلك لطلبتهم، على أنها "حقائق" و"قواعد" و"أصول" يجب اتباعها، وهكذا دواليك..

(2)
ولأن نموذج "المدينة- الدولة" لم يعد قائما، بعد أن أصبح تعداد المدن بالملايين، فقد انتفت (كليا وعمليا) فكرة "حكم الشعب" أو ما كانت تُعرف بـ"الديمقراطية"، وكان لا بد من صياغة اصطلاح جديد، وبدلا من استخدام مصطلح "الأرستوقراطية" أو "حكم النخبة" الذي ينطبق (إلى حد بعيد) على الآلية المتبعة حاليا، في الدول التي تعتبر نفسها "ديمقراطية"، اختار الساسة ومن في خدمتهم من المفكرين والأكاديميين "تدوير الديمقراطية"، ليس لأنها مطابقة لواقع الحال (فالمطابقة منتفية أصلا)، ولكن لحُسن وقعها على آذان الجماهير! ما يجعلها تعتقد (أي الجماهير) أنها تحكم نفسها، وهذا غير صحيح!

وعلى غرار ما تقوم به ست البيت المصرية الشاطرة، التي تقدم بقلة "الفول" في صور متعددة؛ لإقناع أسرتها بأنها تأكل طعاما مختلفا في كل مرة (مدمس، فلافل، بيصارة، نابت... إلخ)، قام المفكرون بتقديم مصطلحات مثل: الديمقراطية المباشرة، الديمقراطية النيابية، الديمقراطية الليبرالية، الديمقراطية التشاركية، الديمقراطية الاشتراكية... إلخ. فالمهم هو إيهام الشعب بأنه يحكم، أو إظهار هذا النظام أو ذاك بأنه يحكم بأمر الشعب!

أما الصحيح والحقيقة (فيما أحسب وأعتقد) أنها "بوليموقراطية"، إن صحت التسمية (وهي لي عملا بحقوق الملكية الفكرية)، وليست "ديمقراطية"، وأعني بها "حكم المال السياسي" أو "PoliMoCracy" اختصاراً لـ"Political Mony Cracy"، فالمال السياسي هو الذي يقدم للشعب من "يختار"، والمال السياسي هو الذي "يقنع" الشعب بـ"اختياره"، والمال السياسي وقود الدعاية، والدعاية هي أسوأ ما في العملية الانتخابية، ولا أقول الديمقراطية؛ لأنها غير موجودة أصلا.. والمال عموما (في العالم المادي) لا يُنفق لوجه الله، وإنما يُنفق لتحقيق مصلحة لصاحبه في المقام الأول، وصاحبه (في هذا العالم) هم رجال المال والأعمال، الذين يشكلون رقما عشريا (تافها) في المئة من أي شعب!

بالمفهوم الأخلاقي، فإن الدعاية هي الترويج لفكرة حسنة، أو قيمة عظيمة مفقودة أو منسية، أو محاربة عادة سيئة تغلغلت في المجتمع، أو تقديم كفاءات لا تملك القدرة على التعريف بلمكاتها وإمكاناتها التي يمكن أن تساهم في نهضة المجتمع.. إلخ. أما الدعاية، بمفهومها السائد حاليا، فهي "البروباجندا" التي "تجعل الفسيخ شربات" بالتعبير المصري الدارج، أي تجعل من الملح سكرا، ومن النكرة عَلما، ومن اللص شريفا، ومن الخائن وطنيا، ومن المرتشي مثالا للنزاهة.. إلخ.

الشعوب في ظل "البوليموقراطية" لا تختار من يحكمها بملء إرادتها، وإنما "تتوهم أنها تختار". ففي اللحظة التي يقوم فيها الشخص بـ"اختيار" مرشحه المفضل، رئيسا أو نائبا، فإنه يفعل ذلك تحت تأثير الدعاية التي شكلت "قناعاته الزائفة"، وربما غيرت لديه قناعات (كانت صحيحة) إلى الأسوأ، ولا دعاية بلا مال.. فـ"المال السياسي" هو الذي يحكم، وليس الشعب.

إنها "بوليموقراطية" لا "ديمقراطية".

twitter.com/AAAzizMisr