كتاب عربي 21

المقدسيّ سيّد أحرار هذا العالم... محاولة لتفسير ما يجري في القدس

1300x600
بداية خاب وخسر وفشل فشلا ذريعا العقل الصهيوني الذي يعتبر الإنسان الفلسطيني إنسانا بإمكانه أن يعيش بلا كرامة ولا قضية ولا وطن ولا سيادة، بل هو مجرّد ماكينة أو آلة تدور وفق المشغّل الإسرائيلي الذي يجيد توظيف الموارد البشرية (المفرّغة من محتواها الوطني والإنساني) في رحى عجلته الاقتصادية العظيمة. وقد عبّر عن هذه الحالة "شمعون بيرس"، صاحب نظرية تحسين الأوضاع المعيشية للناس من شأنه أن ينهي مقاومة الاحتلال (الإرهاب!) ويجري مجراه كلّ دعاة الحلّ الاقتصادي، ومن قبلهم الأمم المتحدة التي أنشأت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين بدل عودتهم لأوطانهم ورفع الظلم الذي وقع على رؤوسهم.

بين الحين والآخر يثبت الفلسطيني أنه عصيّ على هذه النظريات الواهية والتي ثبت أنها أوهن من بيت العنكبوت. إنهم لا يدركون حقيقة هذا الإنسان المقدسي (وبالمناسبة كل فلسطيني هو مقدسي حتى النخاع، حيث الشعور العميق بأنه عنصر من عناصر الطائفة المنصورة المرابطة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس). وهنا نقف أمام منظومة من القيم محكمة الترابط؛ مزروعة في أعماق المقدسي. وهذا يقودنا إلى ما هو أبعد من الفكرة والمعرفة أو الثقافة، إذ أننا على رأي علي شريعتي نصل إلى منطقة الإحساس بالفكرة، وهذا يجعل منها قطعة أصيلة من روحه وعقله وقلبه. فالفلسطيني هو مؤمن بربه بالفطرة، وهذا إحساس عميق داخلي ينشأ معه منذ كان في بطن أمه إلى أن يصبح شابا يافعا، ومن دواعي هذا الإيمان أن يتحرّر من الخوف ومن كلّ محاولات تدجينه أو تطويعه أو جعله لقمة سائغة للغطرسة الصهيونية على أرضه، وفي هذا السياق يبرز انتماؤه وإحساسه العميق بارتباطه بالقدس والمسجد الأقصى المبارك.

وهنا يظهر مقتل الرؤية الصهيونية للفلسطيني، إذ تعاملت مع الأمر على أنه فكرة عابرة يسهل تطويقها وإغراقها وتهوين أثرها وطمس معالمها في غمرة سياسة العصا والجزرة، فمزيد من الجزر لإشباع الأرانب ومزيد من العصي لتأديب المشاغب، ليؤول أمر الفلسطيني الى سياسة تحكم السيطرة عليه وتدفعه إلى أن يتطبّع ويتخلّق بأخلاق القطيع الذي يتحرّك بجهاز التحكم عن بعد وعلى أحدث ما وصلت إليه المزارع الالكترونية، فيدفع الراعي العلف في حوسبة دقيقة ويحسن جزّ الصوف وتحقيق وفرة اللحم والمرابح بقليل من الجهد وكثير من الإدارة الناجحة.

المقدسي (وكل فلسطيني مقدسيّ) أثبت أنه إنسان يملك من الإحساس بالحرية والكرامة والسيادة ما يكفي لإفشال هذه السياسة الصهيونية الفاشية الطاغية، ينتفض بشكل مفاجئ للصهاينة لكنه غير مفاجئ لمن يعرفه حقّ المعرفة، ليثبت أن هذا الإحساس عميق وقويّ وفاعل. وهو جاهز للتضحية والالتحام بقضيته وقدسه التحام الروح بالروح، ومستعدّ للتضحية بكلّ شيء وقتما وكيفما يريد، وأن هذا الإحساس هو إحساس ثوريّ بامتياز تكتنز فيه وتتكّثف قيم كثيرة؛ أهمها قيم الحرية والكرامة والسيادة، وأن هذا الإحساس يجعله أبعد ما يكون عن طبائع القطيع ومشتقاتها من الخنوع والخضوع والاستلاب، أو أن يكون قابلا للاستعمار أو الاستحمار أو الاستعباد لأي كان، مهما بلغ من قوة المال والسلاح ومهما ملك من وسائل وأساليب إخضاع الناس والسيطرة عليهم وإفقادهم إرادتهم وقدرتهم على المواجهة والمقاومة.

المقدسي (وكلّ فلسطيني مقدسيّ بالفطرة) أثبت أن نقطة الدوران المركزية في حياته هي قضيته وأقصاه وقيامته وحقّه الثابت في فلسطين كلّ فلسطين، فكل محاولات وضعه في مسار آخر يدور فيه لن تجدي معه نفعا، فلن يدور حول أشخاص ليفقد من حيويته وعافيته وليتحوّل إلى إنسان مريض معلول، ولن يدور في فلك الأشياء ليصبح ميتا لا حياة ولا روح فيه، بل هو حيّ فاعل قادر على قلب كلّ معادلاتهم رأسا على عقب، وقادر على إثبات ذاته وحقّه في القدس وفلسطين.

وكان من رسائل هذا المقدسيّ الجميل التي ملأت الآفاق أنها كشفت زيف غطرسة هذا المحتلّ، وفي نفس الوقت رمت المطبعين العرب الذين تماهوا مع هذا المحتلّ القذر في مزبلة التاريخ. فكيف يقف المطبّع أمام المرآة ليرى نفسه منسجما مع من يدنّس ساحات المسجد الأقصى بقطعان سفلته، وأثبت أيضا أنه قادر على الوقوف أمام هذه الغطرسة وأن نبضه الحرّ هو نبض القدس ونبض كلّ الأحرار، وبهذا فإن دائرة هذا الفضاء الحرّ كالأمواج التي تتحرّك في بحيرة ساكنة ألقي في وسطها حجر فاتسعت الأمواج لتصل البحيرة من كلّ أطرافها.

الأمواج المقدسية وصلت كل الأحرار وكلّ المطبعين ففعلت فعلها وقالت قولتها: لقد فتحت القدس أبوابها وأشرقت للأحرار بكلّ أنوارها، وقالت للمطبعين لا نصيب لكم مني ما دمتم مصافحين وموالين ومتماهين مع ألدّ أعدائي ومن يحاول فرض غطرسته على كلّ أرجائي.