مقالات مختارة

عن وثيقة الانقلاب بتونس

1300x600

الرئيس قيس سعيّد يعترف بصحّة وجود الوثيقة المسرّبة من موقع "ميدل إيست آي" عن خطّة لتفعيل الفصل 80 من الدستور، ويدفع بكونها مراسلة واردة على الرئاسة ولا تلزمه أو يتحمّل مسؤوليّتها.
"وهي من المفارقات.. يعني إنت يجيك جواب وإلاّ تجيك رسالة.. تولّي إنت المطلوب.. أيه شوف ألّي بعث الرسالة..؟؟".


هكذا قال رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد اليوم الأربعاء في لقائه بهشام المشيشي رئيس الحكومة والمكلّف بتسيير وزارة الداخليّة وبوزير الدفاع، معترفا بذلك ضمنيّا لكن بوضوح بصحّة الوثيقة المتعلقّة باقتراح خطّة عمل لتفعيل الفصل 80 من الدستور، والتي نشرها الصحفي البريطاني المعروف "ديفيد هيرست" على موقع "ميدل إيست آي" الإنجليزي، وشكّك في وجودها أصلا المقرّبون من الرئيس وأنصاره.


فالصيغة التي تحدّث بها الرئيس سعيّد تفيد بأنّ تلك الوثيقة وُجدت فعلا، ولكنّها كانت مجرّد رسالة موجّهة للرئاسة، ولا يتحمّل الرئيس مسؤوليّتها والحالة تلك باعتباره لا يقف وراء توجيهها، وإنّما هو فقط في مؤسّسة الرئاسة المستلمة للرسالة كما يُفهم من كلام قيس سعيّد، وبالتالي فإنّها لا تلزمه.


هذا التصريح يتطابق مع ما نشره موقع "ميدل إيست آي" نفسه من كون الوثيقة كانت في شكل مراسلة موجّهة لرئيسة الديوان، وأنّها حصلت عليها بطرقها الخاصّة من مكتب الوزيرة.


وهو عين ما سبق لنا شرحه أيضا في مختلف الفرضيّات المتعلّقة بالوثيقة حين قلنا في مقالين سابقين بأنّه لا شيء يجزم بصحّتها، ولا شيء يجزم أيضا بعدم صحّتها، وأنّها يمكن أن تكون مراسلة موجّهة للوزيرة رئيسة الديوان من أحد المستشارين أو من غيرهم من خارج القصر، وأنّه لا شيء يفيد بكون الرئيس سعيّد على علم بها، أو أنّ الرئاسة تتبنّى تلك الوثيقة أو تعتمدها كخطّة عمل.


في المقابل، فإنّ البعض، ليس فقط من عموم أنصار الرئيس، وإنّما أيضا من النخبة ومن المحلّلين ومن الإعلاميّين والأطراف السياسيّة المختلفة، استماتوا في محاولة نفي أن تكون مثل تلك الوثيقة موجودة أصلا بأيّ شكل، واعتبروا الأمر كلّه مجرّد فبركة، وشكّكوا في صحّة وجديّة الموقع والصحفي "ديفيد هيرست"، رغم حرفيّته ومهنيّته ومصداقيّته المعروف بها منذ عقود في مجال الصحافة وخصوصا في الشؤون العربيّة التي يعدّ أحد كبار الإعلاميّين الغربيّين المختصّين فيها بامتياز.


طبعا فإنّ حرص الرئيس سعيّد على توضيح ملابسات تلك الوثيقة، لا يهدف فقط إلى "نفي التهمة" عن نفسه أمام الشعب التونسي، وإنّما يهدف أساسا إلى محاولة الدفاع عن نفسه وعن نواياه خصوصا أمام الرأي العام الدولي، وأمام القوى الكبرى الراعية للمسار الديمقراطي في تونس (أيّا تكن أهدافها أو مصالحها الخاصّة أو الحقيقيّة من وراء ذلك).


ولا شكّ أنّ مكالمة نائبة الرئيس الأمريكي للرئيس سعيّد منذ أقلّ من أسبوعين وتأكيدها على دعم الولايات المتحدّة الأمريكيّة الكامل والجدّي للنظام الديمقراطي في تونس، وضرورة إتمام المؤسّسات الدستوريّة وتكريس علويّة وسيادة القانون ببلادنا، ثمّ ظهور مثل تلك الوثيقة التي تمثّل "خارطة طريق"ّ لشبه انقلاب على الشرعيّة وعلى الدستور يتخّذ من تفعيل الفصل 80 من الدستور بطريقة متعسّفة وخاطئة مطيّة للانطلاق في ما يخرق الدستور نفسه، وما يناقض مبدأ الفصل بين السلط وأركان النظام الديمقراطي ومدنيّة الدولة وعلويّة القضاء والقانون، فإنّ ظهور تلك الوثيقة على مكتب الوزيرة مديرة ديوان الرئيس وأقرب شخصيّة إليه؛ يشكّل نقطة سوداء حرص قيس سعيّد على نفي سوء النيّة فيها.
 وأوضح بطريقة غير مباشرة لكنّها مفهومة بأنّها مجرّد مراسلة وردت على الرئاسة.، ولا يعرف من "بعثها"، وليس "مطلوبا فيها"..!!.


وكان حريصا أيضا على تأكيد التزامه بالدستور وتقيّده بالقانون وبنفي أيّ نوايا انقلابيّة.


يؤكّد كلّ ذلك بأنّ الرئيس سعيّد انزعج فعلا من ذلك التسريب ومن تبعاته على المستوى الداخلي والخارجي، خاصّة وهو يعرف أنّ مصداقيّة صحفي مثل "ديفيد هيرست" قد تجعل من نشر مثل تلك الوثيقة الخطيرة ذات تأثير وثقل سياسيّ دولي بالنظر إلى شخص الإعلامي.


ويعطي الأمر درسا لأنصار الرئيس نفسه والمدافعين عنه من العامّة ومن النخبة بأنّ عقليّة "أنصر رئيسك ظالما أو مظلوما" ولو بالكذب والتلفيق على موقع صحفي معروف وعلى صحفي مرموق، قد تضرّ بمصالح الرئيس نفسه، وقد بدا بإصراره اليوم على الخروج للتوضيح والتمسّك بحسن النيّة وإعلان التزامه بالدستور والقانون أحرص على مصالحه الشخصيّة والسياسيّة ممّن يدافع عنه اعتباطا وتعصّبا وجهلا..!!!.


لعلّ الرئيس يتساءل أيضا ومنذ نشر الوثيقة، كيف أنّه إذا ما كانت وثيقة حسّاسة قد تدينه أو تدين مكتب ديوانه وُجِدَتْ على مكتب الوزيرة مديرة الديوان الرئاسي لوقت قصير؛ سرعان ما وصلت فورا إلى وسيلة إعلام وموقع صحفي معروف ودولي، فما الذي تعرفه أو توصّلت له أجهزة استخبارات محترفة وكبرى عديدة ناشطة جدّا بتونس..؟؟!!