قضايا وآراء

ثمن الحرية.. اغتيال في ليل طويل

1300x600

بعد ساعات من اختطاف الناشط السياسي الفلسطيني نزار بنات في 24 حزيران (يونيو) 2021 من قبل أجهزة أمن السلطة الفلسطينيىة، تم الإعلان عن وفاته، نزار بنات ليس أول ضحايا الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي أرهق وجودها الشعب الفلسطيني ولن يكون آخرها طالما هي تقوم على أساس الارتباط العضوي مع الاحتلال ونظام التنسيق الأمني.

خلال مرور ما يزيد عن الأربعين يوم على هذا الاغتيال السياسي، انتفض الشارع الفلسطيني في البداية اعتراضا على ممارسات الأجهزة الأمنية مطالبا بمحاسبة المسؤولين عن هذا الاغتيال، وفي سبيل تحقيق تلك المطالب خرج المئات إلى الشارع في مسيرات سلمية للضغط من أجل تقديم المسؤولين عن الجريمة للمحاكمة، لكن أجهزة الأمن قامت بقمع تلك التظاهرات واعتدت على المتظاهرين السلميين، وصادرت هواتفهم، واعتدت على خصوصياتهم، وأنشأ عدد من أفرادها مجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر خصوصيات المتظاهرات التي في هواتفهن، في مشهد ابتزازي يعبر عن عنجهية وعدم الالتزام بأدنى الحقوق الإنسانية والأخلاق العامة.

عادت الدعوات للتظاهرات السلمية من جديد يوم السبت 21 آب (أغسطس)، وكانت الدعوات من أجل الضغط لمعرفة مصير التحقيقات التي لم تثمر عن نتائج حتى الأن في معرفة المتورطين بجريمة الاغتيال السياسي، وكسابقاتها من التظاهرات السلمية  وقبل أن تنعقد المظاهرة حتى أقدمت الأجهزة الأمنية على اعتقال من نووا على التظاهر في ساحة المنارة، وكان من بينهم شخصيات وطنية قادت معارك الأمعاء الخاوية في سجون الاحتلال مثل ماهر الأخرس والشيخ خضر عدنان، وأيضا شخصيات علمية وثقافية معروفة لدى الشارع الفلسطيني، وقدمتهم يوم 24 آب (أغسطس) للمحاكمة، وربما تعد هذه أول محاكمة أرضية على أساس النية على التظاهر!

في مشهد شبيه لممارسات جيش الأسد وأجهزته الأمنية، ظهر عنصر أمن وهو يعتدي لفظيا على زوجة المناضل الفلسطيني خضر عدنان، ويطلب منها فض الاعتصام المطالب بالإفراج عن زوجها وبقية المعتقلين، ويهدد ويتوعد بأنه لا حرية هناك، وهذه الممارسات ليست الأولى فقد شهدت التظاهرات والاعتصامات السابقة اعتداءات جسدية على المتظاهرت والمتظاهرين كما حصل مع هند الشريدة زوجة المعتقل أبي العابودي، التي تم سحلها وضربها أمام أطفالها حين اعتصمت مطالبة بالإفراج عن زوجهافي تظاهرات سابقة، وبعد الإفراج عنه تم اعتقاله من جديد.  

أمام الاعتداءات التي طالت شخصيات وطنية وعلمية وثقافية ونضالية وحقوقية تعد أعلاما في حقولها، نقف أمام تعريف جديد للفلسطيني كما تريده سلطة أوسلو، فهذه الاعتداءات تمثل إعادة تعريف صريحة للفلسطيني على أنه ذلك الذي لا يعارض السلطة ولا ينتقدها، وإنما من يعزز فلتانها واعتداءاتها ويتغاضى عنها باسم المشروع الوطني المبهم الذي تستعمله كشماعة لتعليق اعتداءاتها وإخفاقاتها المتكررة في إدارة ملف الحريات السياسية عليه.
 
منذ بدء اتفاقية أوسلو ١٩٩٣ عاشت النخبة السياسية الفلسطينية وهم بناء الدولة تحت الاحتلال، وعمق هذا الوهم ودعمه مجموعة الضغوطات الإقليمية، كذلك طبيعة النظام الأمني الذي قامت عليه السلطة الفلسطينية، ففي غياب مشروع الدولة الفعلي دعمت الأطراف المانحة الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تحرس أمن النخبة السياسية التي تصدر مشروع الدولة الوهمية تحت الاحتلال على أنه أقصى ما يمكن أن يمثله الطموح الفلسطيني.

تمثل ميزانية الأجهزة الأمنية الفلسطينية ما نسبته ٣٠ بالمئة من ميزانيات السلطة بمعدل مليار دولار للأجهزة الأمنية، حيث حسب تقرير منشور على شبكة السياسات الفلسطينية هنالك ٣١٢ من ضباط الأركان يعمل منهم ٢٣٢ بإمرة سلطة رام الله و ٨٠ بإمرة سلطة حماس، وهذه من أعلى نسب القيادات الأمنية بمثل هذه الرتب في العالم، فمثلاً يعمل لدى الجيش الأمريكي ٤١٠ جنرالات من مثل تلك القيادات، وتمثل نسبة أفراد الأمن للسكان في الضفة وغزة ما نسبته ١.٤٨%، وهذا يعني وجود عنصر أمن واحد لكل ٤٨ فلسطينيا.

تقوم مجهودات الدول الداعمة لقطاع الأمن الفلسطيني على تبرير الدعم الكبير للقطاع الأمني بادعاء إصلاح نظام الأمن، وبناء وإرساء أسس قيام دولة فلسطينية، وتتعمد تلك الأطراف إهمال النتائج المترتبة على ذلك الدعم الكبير، والذي يخضع لشروط دولة الاحتلال في طبيعة شكل الأمن الذي يجب أن تفرضه تلك الأجهزة على الأرض. 

لا تمثل أجهزة الأمن الفلسطينية ضمن منظومة التنسيق الأمني مع الاحتلال خطرا على المقاومة الفلسطينية ومجهودات التحرير فقط، وإنما تربط ما عدده ٨٣,٢٧٦ فلسطيني من موظفيها بشكل مباشر بتحقيق أهداف أمن دولة الاحتلال، مما يعزز حالة من التباس الهوية الوطنية والإنسانية لديهم، خاصة أنها تعتمد في تدريبهم على ما يسمى عقيدة دايتون الأمنية، نسبة للجنرال الأمريكي كيث دايتون الذي استلم تدريب تلك العناصر بعد العام ٢٠٠٥، حيث قامت تلك التدريبات على زرع فكرة أسبقية أمن دولة الاحتلال كمهمة أولى لتلك الأجهزة والعناصر، تحاشيا لانضمامهم لأي انتفاضات أو هبات جماهيرية محتملة كما حصل في الانتفاضة الثانية حيث انضمت عناصر الأجهزة الأمنية لمجهودات المقاومة الشعبية وارتقى من بينهم شهداء تحت قيادة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

 

لا يوجد أكثر دلالة على الأدوار الأمنية التكميلية التي تؤديها الأجهزة الأمنية الفلسطينية مع الاحتلال من قيام دولة الاحتلال اثناء المواجهات الأخيرة من سحب قواتها في الضفة وإرسالها لقمع فلسطينيي ٤٨، فكان ذلك تعبيرا واضح ا عن أن دولة الاحتلال متأكدة بأن عقيدة دايتون الأمنية أثمرت في العناصر الأمنية إلى الحد الذي أصبحت فيه حامية لأمن الاحتلال في جبهة الضفة التي عكفت على إخماد غضبها.

 



تعتمد قوات الأجهزة الأمنية القوة المفرطة في مواجهة الخصماء السياسيين للسلطة، حيث الاعتقالات الجماعية في صفوف حركة حماس والجهاد الإسلامي في الضفة وعناصر حركة فتح في غزة، كذلك تعتمد في أساليب تحقيقها والاعتقال أساليب وحشية، كما وثقت المنظمات الحقوقية العاملة في الأرض المحتلة، حيث تستوحي أساليب التعذيب من الأنظمة الأمنية العربية في معتقلات الرأي حسب شهادات من نجوا من تلك المعتقلات التي أشاروا إليها بالمسالخ البشرية، ويأتي على رأسها مسلخ أريحا.

تناوبت أجهزة أمن السلطة والاحتلال الإسرائيلي على اعتقال المقاومين الفلسطينيين المطلوبين للاحتلال، حيث تلعب تلك الأجهزة وفق اتفاقية التنسيق الأمني أدواراً تكميلية مع كيان الاحتلال، وأحبطت تلك الأجهزة الكثير من عمليات المقاومة الفلسطينية عن طريق إبلاغ سلطات الاحتلال عنها، كذلك تسببت في استشهاد عناصر من المقاومة عن طريق تتبعهم وإبلاغ قوات الاحتلال عن أماكن تواجدهم ومنهم الشهيد باسل الأعرج.

تتناسب الأدوار التي تؤديها الأجهزة الأمنية الفلسطينية مع طموحات الاحتلال كذلك طموحات الدول المانحة التي تضخ فيها مليارات الدولارات، حيث تساهم تلك الأجهزة في إحباط عمليات المقاومة الشعبية وتعكف على حراسة أمن الاحتلال كما حصل في المواجهة الأخيرة بين حركات المقاومة الفلسطينية في غزة والاحتلال في عملية سيف القدس/حارس الأسوار في أيار/ مايو من هذا العام، حيث اعتدت الأجهزة الأمنية على عدد من المسيرات المساندة لغزة، وأعاقت وصول الفلسطينيين لنقاط الاشتباك مع الاحتلال في الضفة، حتى راح الخبراء العسكريين الإسرائيليين يتساءلون ماذا كان سيحل بدولة الاحتلال لو لم تكن الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة لمنع اشتعال جبهة مقاومة منها خاصة بعد اشتعال المقاومة في صفوف فلسطينيي ٤٨؟

لا يوجد أكثر دلالة على الأدوار الأمنية التكميلية التي تؤديها الأجهزة الأمنية الفلسطينية مع الاحتلال من قيام دولة الاحتلال اثناء المواجهات الأخيرة من سحب قواتها في الضفة وإرسالها لقمع فلسطينيي ٤٨، فكان ذلك تعبيرا واضح ا عن أن دولة الاحتلال متأكدة بأن عقيدة دايتون الأمنية أثمرت في العناصر الأمنية إلى الحد الذي أصبحت فيه حامية لأمن الاحتلال في جبهة الضفة التي عكفت على إخماد غضبها. 

إن الانتهاكات الحقوقية التي ترتكبها الأجهزة الأمنية الفلسطينية تحرج الجهات الداعمة كما صرح مرة الجنرال كيث دايتون:" إنهم يسببون المشاكل للدول المانحة لتعذيبهم الناس"، وذلك في  أعقاب قتل مجد البرغوثي من تنظيم حماس بتاريخ ٢٢ شباط/ فبراير عام ٢٠٠٨ من قبل الأجهزة الأمنية ومحاولة تلفيق تهمة اقتناء السلاح له.

وحسب نزار بنات الذي فضح ممارسات الأجهزة الأمنية الفلسطينية بشكل مستمر حيث تم اعتقاله وتعذيبه عدة مرات قبل أن تجهز عليه في الاعتقال الأخير ٢٤ حزيران/ يونيو  فإن الأجهزة الأمنية عندما تصفي إحدى معارضيها فإنها تعمم على عناصرها عدم الحديث في الموضوع، ثم محاصرة حالة التعاطف الشعبي مع الضحية والعائلة، حتى لا يكون موقف الاستنكار الشعبي محل إجماع مجتمعي، وبعد يومين أو ثلاثة يعملون على ترويج أن أسباب التصفية أسباباً اجتماعية وليست سياسية ويبدأون في نشر الشائعات، ثم انكار وقوع الجريمة ذاتها والتشكيك بالرواية من أساسها، كذلك استخدام دوائر الضغط الاجتماعي من أجل طمر القضية. 

لم يكن يعلم نزار بنات حين أشار إلى التصفية النفسية والمجتمعية والأخلاقية والجسدية لمعارضي السلطة من  أنه سيكون من إحدى ضحايا تلك الأجهزة، وأنه سيتم تصفيته من قبلهم أثناء الساعات الأولى من اعتقاله، لتشيع حالة من الغضب الشعبي على ذلك الانتهاك وتلك الجريمة، خاصة بأن مجهودات الأجهزة الأمنية تشكل حالة ضغط على الحالة الفلسطينية حيث تتوسط حقيقة أن ليس من الممكن بناء دولة تحت الاحتلال كذلك أنها عقبة أمام الفلسطينين في نضالهم من أجل حلم الدولة المستقلة.

هذه الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان في سجون السلطة،  تعري ادعاءات من يقترفها من أنهم طرف في النضال والمقاومة أو مشروع التحرر الوطني، وهذا ما لا ينكره كل من يريد أن ينظر للواقع كما هو، فأساليب التعذيب التي تنتهجها الأجهزة الأمنية في حق معارضي السلطة سواء في رام الله أو غزة ما هي سوى دلالة على انحراف في المسار الوطني، وعلى مدى تشعب المتاهة التي دخلت فيها الحركة الوطنية منذ أن طاردت وهم دولة تحت الاحتلال.

*باحثة في العلوم السياسية