كتاب عربي 21

"بيضة اليسار العربي"!

1300x600
لم يكن "حديث البيض" كاشفاً عن محنة النائبة في البرلمان المصري "فريدة الشوباشي" (84 سنة)، بقدر ما يعبر عن أزمة اليسار العربي بشكل عام، والذي أصبح بلا قضية، ولأن "اليد العاطلة نجسة"، بحسب المقولة الدارجة، فلا يجد ساحة للنضال سوى التحرش بالثوابت الدينية (الإسلامية على وجه التحديد والحصر)!

فلا موضوع تتحدث فيه المناضلة اليسارية المتقاعدة إلا حقوق المرأة التي جار عليها الإسلام، ومكانة المرأة التي أساء إليها الإسلاميون، تُستدعى للقنوات التلفزيونية، فتعيد وتزيد في هذه "النغمة المشروخة"، وعندما أرادت التجديد هذه المرة، أضحكت الثكالى، فقد ذكرت أن التراث ظلم المرأة، لأن والدتها كانت تميز شقيقها الذكر عنها، فكانت تعطيها في الإفطار بيضة، بينما تختصه ببيضتين، وهي هنا تقصد "التراث الإسلامي"، في إشارة واضحة إلى حكم "للذكر مثل حظ الانثيين"، فلا أحد من أهل اليسار، أو جماعات التنوير الزائف، يمكنه الاقتراب من "التراث المسيحي"، ولو بشطر كلمة!

ومشكلة "فريدة المذكورة"، أنها لا تعلم أن أصولها المسيحية معروفة للناس، وقد عرفتها أنا في وقت متأخر، وفي الفترة التي سبقت الثورة مباشرة، لأن الذي يذكرني بذلك أن ابن خالتها السياسي المعروف، جمال أسعد عبد الملاك، كان قد تم تعيينه حالاً في برلمان 2010. وكان لقاؤنا بعد الجلسة الأولى لهذا البرلمان، الذي قال فيه مبارك عبارته الشهيرة "خليهم يتسلوا"، بعد إبلاغه بأن المعارضة شكلت "برلمان الظل". وكنا نجلس في "كافتيريا نقابة الصحفيين"، وإذ ذكر واقعة خاصة بخالته قبل أن يقول إنها والدة فريدة الشوباشي، فقد ذهلت لذلك. وكان الرجل يعتقد أنني أعرف أصولها، فلما وقف على جهلي، حكى لي أنها يسارية، دخلت الإسلام لتتمكن من الزواج من اليساري علي الشوباشي، وكيف أن الأمر لم يكن يمثل أزمة لدى الجيل القديم من أولياء الأمور!

وهنا نأتي إلى أصل المشكلة، فاليسار لم يكن في عداء مع الإسلام، فقد كان لدى الشيوعيين ما يشغلهم من قضايا تستحق النضال حولها، وكان لديهم حرص شديد على التأكيد على أنهم ليسوا في خصومة مع الأديان بشكل عام، وإذ انطلقت دعاية مضادة مثلها سؤال طرح في بداية الثمانينات: هل يمكن أن يكون الشيوعي مسلماً؟ فقد كانوا هم يحرصون على الإجابة بالإيجاب. فحتى كارل ماركس عندما قال إن الدين أفيون الشعوب، كان يستهدف توظيف الدين لخدمة مصالح الاقطاع ضد الطبقة العاملة، وكانت هذه الإجابة في مواجهة إجابات الأنظمة التي تنفي عنهم ذلك في حملة التشهير بهم، وفي هجوم سلطوي لم يكن يراد به وجه الله ورسوله!

وكان الحزب الذي يمثل اليسار (التجمع الوطني التقدمي الوحدوي) يعيد ويزيد في أن زعيمه "خالد محيي الدين" يطلقون عليه في بلدته "الحاج خالد"، وكان هو يقول إنه نشأ في أسرة صوفية، وكان "التجمع" بشكل عام يحرص على وجود لجنة دينية ضمن لجانه يرأسها أزهري، وكان في وقت من الأوقات شيخا معمما (في المناسبات) اسمه مصطفى عاصي، وأراد الرئيس السادات أن يحرق الأرض من تحت أقدامهم، فقال بطريقته المعهودة في السخرية: "حتى الشيخ بتاعهم عاصي"!

وفي مرحلة عدم الاكتراث الديني، لم تكن "فريدة" فقط التي دخلت الإسلام بهدف الزواج، فآخرون فعلوا مثلها من منطلقات تقدمية، تعاملت مع العائق القانوني في إتمام الزواج بأريحية، فدخل الإسلام "موسى جندي" الصحفي في "الأهرام"، ونبيل زكي الصحفي في "الأخبار" والقيادي بحزب التجمع في وقت لاحق. وكان أسوأ نموذج تمثله حالة "غالي شكري"، ففي فترة الهجرة اليسارية إلى بلاد الله الواسعة، هرباً من نظام السادات، كان هو من النخبة التي عاشت في فرنسا، وإذ كان القذافي يدعوها لاحتفالاته، وما عرف عنه من كرم في الدعم والتمويل، فقد كان يستثني "غالي شكري" من الدعوة، وعندما سأل قيل له لأنك مسيحي، وعرض أن يشهر إسلامه أمام القذافي، وقد كان!

وعندما حدثت العودة في زمن مبارك، لم يجد "غالي شكري" نفسه مضطراً للعودة إلى ديانته الأم، وتجاوز ما حدث، ولم تقف الكنيسة عند ذلك، فقد كان في حرب مع التيار الديني، وإن كانت من منطلقات ماركسية، لكن غيره من المتحولين كانوا في أزمة لأن حياة كاملة تشكلت بالزواج، ثم حدث ما لم يكن في الحسبان!

النظرية والتطبيق:

كان الخطاب اليساري يميز بين النظرية والتطبيق، لكن في الحقيقة فإن الولاء للتطبيق كان مقدماً عندهم على النظرية، لذا فقد تعرضوا لأزمة نفسية بسقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه، وشعروا بالضياع، والانهيار، وإن ظل اليسار الوطني متماسكاً بشكل ما، لكن في حدود التماسك الشخصي، فلم يكونوا جميعاً "نبيل الهلالي" أو "محمد منير". وهناك من كان معاشهم ليس من الفكر والعمل السياسي، وهؤلاء آثروا الانزواء بعيداً، لكن دفع هذا الصفوة المختارة إلى الارتماء في أحضان السلطة، والتماهي معها، وتبني قضاياها!

ولم يكن مفاجأة أن يسارياً كبيراً أسس مجلة الطليعة للوقوف ضد إسرائيل وإقامة علاقات معها، هو "لطفي الخولي"، هو من يؤسس جمعية الغرض منها التقارب مع إسرائيل، واختفت قضايا مثل العدل الاجتماعي، وحقوق العمال. ولا يخفى على أحد أن ما سمي بدكاكين حقوق الإنسان التي تمول من الغرب الإمبريالي؛ قام عليها يساريون هم من كانوا الأكثر راديكالية، فلم يعد الممول هو الغرب الاستعماري!

وكانوا يقولون في الخطاب المعلن لخداع جماهيرهم: "نحن البديل الثالث" للأنظمة القائمة وللتيار الإسلامي، لكنهم كانوا في حقيقة الأمر هم ذيول للخيار القائم، وكان الثمن المدفوع فيهم بخساً، لم يكونوا فيه من الزاهدين!

فالثمن المدفوع في حزب اليسار، وفي إنهائه بيد قياداته، لم يكن أكثر من عضوية في مجلس الشورى بالتعيين، وعضوية في مجلس الشعب بالتزوير، الأولى للرجل الثاني رفعت السعيد والثانية من نصيب الرجل الأول خالد محيي الدين؛ وفي الدورتين (1995-2000، 2000-2005) أكدت الأحكام القضائية أن السلطة زورت الانتخابات لصالحه ضد مرشح الحزب الوطني الحاكم، لكن في الانتخابات التي جرت في سنة 2005، لم يكن الجيل الجديد في الحزب الحاكم ممثلا في جمال مبارك وأحمد عز، معنياً بالأمر، فلم تزور ليسقط خالد محيي الدين هذا الرمز الكبير وينجح مرشح الإخوان المسلمين!

ومن يهن يسهل الهوان عليه، فخالد محيي الدين، أحد الضباط الأحرار الصقور الذين انحازوا للديمقراطية، ترك أمره بالكامل بيد رفعت السعيد، فباع - مع الانهيار النفسي - بالرخيص، وإن بدأ محيي الدين السباق قبل ذلك فعزل من رئاسة جريدة "الأهالي" (صحيفة التجمع) من قادوها في اتجاه المعارضة الحادة للنظام، وفي يوم احتفل فيه كاتب السلطة الأول موسى صبري بهذا الحدث الكبير في مقال حمل عنوان: "رحيل عصابة الأربعة"، يقصد رئيس التحرير حسين عبد الرازق وزوجته فريدة النقاش، وشقيقتها أمينة النقاش وزوجها صلاح عيسى، مدير التحرير!

ومع انهيار الاتحاد السوفييتي انهار هؤلاء، ودخل التمويل الأجنبي بيت فريدة النقاش، وباع صلاح عيسى نفسه لوزير الثقافة فاروق حسني مقابل رئاسة تحرير جريدة "القاهرة" التي تصدر من الوزارة، وقد أصبح كاتباً بمجلة "الشرطة" التي تصدرها وزارة الداخلية!

نافع.. نافع:

وكان رفعت السعيد هو مهندس صفقة التجمع مع السلطة وأجهزتها الأمنية، ولم يكن الثمن فقط تعيينه في مجلس الشورى لدورات عدة بقرار من مبارك، ولكن عينوا عليه حراسة مدججة بالسلاح بحجة أن اسمه ورد في قوائم الاغتيالات التي عثر عليها الأمن، بعد اغتيال فرج فودة، ولم يكن لهذه القائمة أصلاً وجود. وقد ذكر وزير الداخلية عبد الحليم موسى، أن القائمة تتضمن اسم رئيس تحرير الوفد جمال بدوي، ومع ذلك لم تعين حراسة عليه، تلك الحراسة التي كانت من حظ محرر شاب في روزا اليوسف اسمه إبراهيم عيسى!

وتعجب أنه عندما خاض الناصري جلال عارف المنافسة على موقع نقيب الصحفيين ضد مرشح السلطة إبراهيم نافع، فإن انفجاراً صدع أركان كل التكوينات الناصرية واليسارية بشكل عام، لأن الكبار - على العكس من الشباب - كانوا مع خيار السلطة. والعجيب أن خالد محيي الدين وهو في طريقه لنقابة الصحفيين بصحبة رفعت السعيد للإدلاء بصوتيهما، كان يهتف بصوت خفيض يسمعه كل من يقترب منه "نافع.. نافع"!

ولم تكن الحسابات خاصة بالسلطة، ولكن لما تحصل عليه من منافع من نافع بشكل خاص، فمذكراته "الآن أتكلم" نشرت فصولها في جريدة "الأهرام"، قبل أن تصدر عن مركز "الأهرام للنشر.." في كتاب، تردد أن المدفوع فيه هو 90 ألف جنيه مكافأة للمؤلف، هو فيهم قطعا من الزاهدين، فالموضوع يتجاوز المبلغ المدفوع لزعيم سياسي هو من عائلة ثرية، ليكون حريا بأيام الانهيارات النفسية!

وإذ بدأ تقدم الشباب في السن، فقد كان المؤكد لدي أن الأزمة مع شخص مثل رفعت السعيد، ليست في حقيقتها إنكار أنه باع بالرخيص، أو أنه باع من الأصل، فمعظمهم (إلا من رحم ربي) كان بداخله يريد أن يكون رفعت السعيد، وجاءت الفرصة لصلاح عيسى فتلقفها، وانتهى الأمر بفريدة النقاش عضوة في برلمان السيسي، وسار زوجها زعيم عصابة الأربعة حسين عبد الرازق في العشرين سنة الأخيرة من عمره؛ في ركاب رفعت السعيد المهيمن على التجمع الوطني الوحدوي!

وقبل معركته ضد التوريث، كان موضوع النضال الأثير لدى عبد الحليم قنديل هو الهجوم على رفعت السعيد الذي باع اليسار للسلطة، لأن نظام مبارك الشائخ لم يعمل حسابا لاستيعاب جيل الشباب الصاعد، وعندما وجد قنديل الفرصة سانحة ليكون رفعت السعيد عض عليها بالنواجذ، لكنه خرج من المولد بلا حمص، لأن إدارة المعسكر الذي يقيمه السيسي يختلف عن الدولة التي أدارها مبارك، والتي آلت إليه بالوراثة من عهد السادات!

وفي "جوار السلطة" لم يكن هناك موضوع سوى الهامش من القضايا النسوية، وليس حقوق الطبقة العمالية، ولا العدالة الاجتماعية، بعد سقوط نداء: "يا عمال العالم اتحدوا"، ليحل محله: "يا عمال العالم باي باي" بحسب الكاتب الساخر محمود السعدني!

هذا النضال من شأنه أن يشوه الحركات الدينية التي تأخذ موقفاً معارضاً من هذه القضايا النسوية، وفي اتهامها بالرجعية وتأكيد على تخلفها ما يخدم أهداف النظام، فيستقر في وجدان الناس أنه الخيار المناسب، في مواجهة المنافس الإسلامي!

الكلام الفارغ:

ومن هنا يأتي الكلام الفارغ عن التراث الذي ظلم المرأة لفريدة الشوباشي، وهي تدرك أن الرسالة ستصل بأنه التراث الإسلامي، لأن المشاهد لا يعرف أن والدة فريدة الشوباشي مسيحية! وأزمتها وأزمة من تحولوا للإسلام من أهل اليسار أكثر عمقاً، لا سيما مع بروز الدور السياسي للكنيسة، وتعامل نظام مبارك معها على أنه الممثل الشرعي والوحيد للمسيحيين، مما سيحرم أمثالهم من الصعود السياسي، فلن تختارهم الكنيسة، ولن يغامر النظام بذلك لحساسية موقفهم، لكن السيسي تجاوز هذه الحساسية واختار "فريدة الشوباشي" عضواً بالبرلمان، فوجب عليها أن تكون مخلصة لذلك، فتخوض معركته ضد التيار الإسلامي، وتسقط الحرج باختيارها، فلن تكون - بهذه المواقف - مثار ضيق من الكنيسة لهذا الاختيار، ثم إنها تستخدم في عملية الإلهاء التي يتبناها الحكم العسكري!

وما دام اليسار بلا قضية، فليس عجباً أن يكون حديث البيضة هو واحدة من قضايا النضال السياسي في المحروسة، وفي المنطقة العربية كلها.

قل بيضة اليسار العربي، ولا تقل بيضة فريدة الشوباشي!

twitter.com/selimazouz1