قضايا وآراء

كيف نظر أغلب "الحداثيين" إلى "تصحيح المسار" وماذا ينتظرون منه؟

1300x600
منذ 25 تموز/ يوليو كان واضحا أن أغلب النخب التونسية (بأحزابها ومركزيتها النقابية وإعلامها ومجتمعها المدني ومثقفيها) قد استقبلت "الإجراءات" قبولا حسنا. فلم تطعن في شرعية "حالة الاستثناء" ولم تجادل في دستورية هذا الإجراء، ولم تشكك في صدق الرئيس الذي كان يهدف حسب "إيمانهم" المصاغ بمفردات علمانية؛ إلى "تصحيح المسار".

ورغم أن جميع هذه النخب تقريبا لم تكن معروفة بانتمائها لمشروع الرئيس السياسي (الديمقراطية القاعدية أو المجالسية)، ورغم أن الكثير من النخب لم يدعموا الرئيس خلال الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، ولم يناصروه إلا على استحياء في الدور الثاني منها.. رغم ذلك كله فإنهم قد أصبحوا من أشرس مناصريه منذ 25 تموز/ يوليو الماضي، وإن حاول - أغلبهم الأعم - التحرك داخل "جبهة الإجراءات" دون التماهي المطلق مع إجراءات الرئيس، خاصة بعد 22 أيلول/ سبتمبر، تاريخ ظهور خارطة الطريق الرئاسية وما تمثله من خطر وجودي على كل وسائط الديمقراطية التمثيلية، حتى ولو كانوا من "حزام الإجراءات" حزبيا ونقابيا ومدنيا.

لا يمكن فهم موقف أغلب النخب الحداثية من قرارات الرئيس يوم 25 تموز/ يوليو إلا بربطها بمواقف هذه النخبة قبل ذلك التاريخ. فالالتقاء الموضوعي أو التقاطع المؤقت في "حالة الاستثناء" لا ينبغي أن يحجب عنا أنّ النخب "الحداثية" كانت مناصرة لمشاريع/ رموز سياسية معادية للرئيس القادم من خارج المنظومة الحزبية، وصاحب المواقف "الرجعية" خاصة في ما يتعلق بقضية الميراث وقضية الأقليات (خاصة المثليين)، بل المبشّر بديمقراطية قاعدية تهدد وسائط الديمقراطية التمثيلية في علة وجودها ذاتها.

ولكنّ كل هذه التناقضات صارت "هامشية"، بعد أن أكدت تصريحات الرئيس ومواقفه بعد وصوله إلى قصر قرطاج أنه سيكون "حليفا قويا" لمواجهة "التناقض الرئيس" مع حركة النهضة وائتلاف الكرامة، ومن طبّع معهما من ورثة المنظومة القديمة. لقد عاد منطق "التناقض الرئيس والتناقض الثانوي" للاشتغال مرة أخرى، وهو ما يقتضي مثل المرة الأولى - زمن المخلوع ونظامه النوفمبري - تأجيل الصراع مع "الرئيس" والتحالف معه لضرب العدو المشترك: الإسلام السياسي وحلفاؤه أو داعموه في الداخل والخارج.

لضرب هذا العدو المشترك، كان على أغلب النخب الحداثية أن "تغض الطرف" عن التعسف في تأويل الفصل 80 من الدستور، وأن تجاريه في مشروع "تصحيح مسارٍ" كانوا في أغلبهم الأعم من أنصار رموزه وأحزابه، أو من المدافعين عن "شركائه الاجتماعيين". ونحن لا ننكر أنّ "الخوف" قد يكون عاملا من عوامل مناصرة هؤلاء للرئيس، ولكنه ليس أساسا الخوف من المحاسبة، بل الخوف من الغياب عن لحظة تاريخية سعوا إليها منذ "اعتصام الرحيل" زمن الترويكا، ولكنّ مخرجات الحوار الوطني سفّهت أحلامهم فيها، ثم جاء المرحوم الباجي قائد السبسي ليبعث الروح في تلك الأحلام خلال حملته الانتخابية ولكنه سرعان ما ارتد عنها باعتماد "سياسة التوافق" مع حركة النهضة. وهو ما يعني في التحليل الأخير أن "حزام الإجراءات" قد يتشكل أساسا من الرافضين للتوافق أو من الذين رضوا به على كره منهم، مما يجلعنا نقول بأن هؤلاء جميعا قد استبشروا بالإجراءات الرئاسية باعتبارها "إجراءات الرحيل"، أي باعتبارها لحظة نجاح "اعتصام الرحيل"، أو باعتبارها اللحظة التي كان على المرحوم الباجي قائد السبسي أن يمضيَ فيها بدل اعتماد سياسة التوافق.

لو أردنا صياغة ما تقدم بصورة مختلفة لقلنا إنه من دون العودة إلى مكوّنات "اعتصام الرحيل" ومطالبها الإقصائية وروحها الاستئصالية، ومن دون استحضار موقف أغلب النخب الحداثية الرافض للتوافق وللتطبيع مع الإسلاميين (لا الرافض لورثة المنظومة القديمة وللتطبيع الممنهج معهم ومع خياراتهم اللا وطنية)، فإننا لن نفهم "القاسم المشترك" بين مختلف النخب الداعمة للرئيس، ولن نفهم أيضا هذا الإصرار السفسطائي على المطابقة بين حركة النهضة وبين المنظومة الحاكمة، أو بينها وبين واقع الفساد البنيوي في أجهزة الدولة.

فرغم الدور المؤكد لورثة المنظومة القديمة في عدم تفكيك بنية الفساد والاستبداد، ورغم أنهم أعظم مستفيد من سياسات التوافق اقتصاديا وثقافيا، فإن "حزام الإجراءات" يحاول جاهدا إخراجهم من دائرة المساءلة. فمشكلة هؤلاء ليست مع الفساد ولا مع الخيارات اللا وطنية لمنظومة الحكم (وهي خيارات لا يمكن إنكار دور حركة النهضة في تكريسها وشرعنتها)، بل مشكلتهم الحقيقية هي مع الإسلام السياسي من جهة أولى (رغم تحوله إلى طابور خامس للدولة العميقة)، ومع ائتلاف الكرامة باعتباره الخطاب السياسي الأوحد غير المطبّع مع فرنسا ومع وكلائها في تونس (من أحزاب وشركاء اجتماعيين ورؤوس أموال ومنظمات مدنية وإعلاميين)، وهو ما يفسر إلى حد كبير شراسة التعامل معه من مختلف مكوّنات "حزام الإجراءات".

لقد جاءت إجراءات 25 تموز/ يوليو لتعيد لأغلب النخب الحداثية "حلم" التخلص من حركة النهضة وحلفائها، بعيدا عن صناديق الاقتراع وبالاستقواء بسلطة الدولة (كما حصل زمن المخلوع). فتناقضهم الرئيس ليس مع الاستبداد ولا مع مركزة السلطة أو انحرافاتها الحقوقية (فقد طبّع أغلبهم مع ذلك قبل الثورة ما داموا هم ومن يشبههم بعيدا عن آلتي القمع الإيديولوجي والأمني)، بل هو التناقض مع طرفين: تناقض مع الإسلام السياسي (حتى ولو طبّع مع المنظومة بشروطها)، وتناقض مع أي خطاب وطني يطرح ضرورة إعادة التفاوض حول المشترك الوطني/ الكلمة السواء بعيدا عن السردية الرسمية وعلاقاتها "المشبوهة" بفرنسا ووكلائها المحليين.

ورغم أن "المساندة النشطة" بعد 25 تموز/ يوليو قد تحولت إلى "مساندة نقدية" بعد 22 أيلول/ سبتمبر، فإنها لن تصبح رفضا لـ"تصحيح المسار" إلا بعد التأكد من استحالة نجاح الرئيس في ما ينتظره منه "الحزام": إخراج حركة النهضة وائتلاف الكرامة من الحقل السياسي القانوني (أو على الأقل منع رجوعهما إلى مركز الفعل السياسي في أي حوار وطني منتظر وفي أي تسويات قد تعقبه)، وتقاسم السلطة مع الرئيس حتى لو كان ذلك في نظام رئاسي يعيد مركزة السلطة في قصر قرطاج؛ ولكنه لا يهمش "الوسائط الحداثية" ولا يذهب إلى حد القضاء على الديمقراطية التمثيلية (كما هو منتظر في صورة نجاح الرئيس في تمرير مشروعه السياسي على الاستفتاء الشعبي العام، ذلك المشروع الذي سينفي الحاجة لأغلب وسائط الديمقراطية التمثيلية رغم كل مواقفها الداعمة للرئيس).

twitter.com/adel_arabi21