كتاب عربي 21

رؤساء على الهواء وشعوب على الحديدة

1300x600
تروي مصنّفات المسلمين مرويّات كثيرة عن ذكاء الخلفاء وتخلّصهم من الحرج، أشهرها قول لمعاوية عندما أبلغوه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر "تقتلك الفئة الباغية": إنما قتله من أخرجه.

وهي من أشهر الأجوبة في حيل التخلص على بُعد تأويلها، وهناك مرويات أخرى عن حروج وقعوا فيها. وقد وثبتْ أم ثاكل إلى حافظ الأسد في مؤتمر صحافي مبثوث على الهواء وسألته عن ابنها المفقود، فتخلص من الحرج قائلاً: اسألي ياسر عرفات. ولم تتكرر مثل تلك الواقعة، فقد تعلّم الأسد الدرس، وحُبب إليه الاعتكاف والخلوة في القصر الجمهوري المرصود.

وكان السادات في مندوحة عن الغضب لما وثب عليه عبد المنعم عبد الفتوح في مؤتمر عقب قراره رفع سعر الخبز، وانتقد أداء الدولة وعاب على السادات من حوله، وتعطيل دور الشباب، فغضب السادات أشدَّ الغضب وهتف به مثل خفير يحرس الأهرامات: "قف مكانك.. قف مكانك"، فقد انتقد كبير العيلة، ونسي السادات أن الغضب قاتل صاحبه، وكان الإنسان نسيّا.

ومن الحرجات الشهيرة لمعمر القذافي، أنه أحبَّ مرة أن يأتسي بالخلفاء في تفقّد أحوال الرعية، فهرعت إليه امرأة منقبة ثكلى، فحسرت حاشية الأخ "القايد" الأمنية نقابها عن وجهها، فالأخ محرم ولا يستر عنه وجهٌ في البلاد، وشكت إلى أخيها القايد فقرها ومرض زوجها، وكانت تسعى له في دواء وطبٍّ، فعمد إلى التحقيق معها وكأنه شرطي في مخفر مركز قرية في بنغازي، وقال: أنت لست ليبية؟! مع أن لهجتها ليبية واضحة، فأظهر قطريةً منكرة وكنا نحسبه قومياً عربياً، فحلفت له أنها ليبية، ثم غضب منها واتهمها بأنها تريد أن "تحشمه" أمام الناس، أي تخذله وتنتقص منه، وأفسدت عليه دور الخليفة عليه في المسرحية، وردّته إلى شخصية الخفير التي تناسب عقله. وخرجت إليه سيدة أخرى، وكررت شكوى سابقتها، وكانت منقبة أيضاً، لكن المخابرات لم تحسر لثامها عن وجهها لشيخوختها، فنصحها الأخ القايد بالذهاب إلى المشافي الحكومية. ثم إن الرجل الأخضر ملّ من لعب دور الخليفة العادل، وعاد إلى خيمته الفاخرة واكتفى من الغنيمة بالإياب، ولا نعرف مصائر الأمهات الثواكل الثلاث.

وشهيرة واقعة السيسي مع عضو مجلس الشعب، فهو بطل في اقتحام المآزق الكوميدية، وهو رجل حسن التخلص وكثير الحيل؛ ليس بمواهبه وإنما بخوف الشعب من بطشه. وكان النائب قد أغضب السيسي بالحديث عن الأجور، والسيسي يسمعه وهو مقبل بوجهه على الحياة ومدبر عن مصر، فكرَّ إلى الخلف بعد تفكير وتدبير، وسأل: أنت مين؟ ومعلوم أن السيسي يخطب عادة كأنه سائق أتوبيس، والنائب راكب على الواقف، "انت عارف انت بتتكلم عن ايه؟" فسكت الرجل خوفاً، ولا بد أنه خاف كثيراً من غرامة عدم دفع الأجرة للكمسري.

وتخلص جورج بوش من حرج تسبب به ضابط أمريكي غاضب احتج على غزو العراق، فأخرج الأمن الضابط من القاعة، وكان يشتمه، فقال بوش: هذه هي أمريكا العظيمة. وسئل صدام حسين عن السيجار المستورد الذي يدخنه، وكانت تأتيه شهرياً اثنتا عشرة علبة هدية من كوبا، من صديقه اليساري فيدل كاسترو المحب للسلام والنيكوتين الاشتراكي، وكان صدام يوزع العلب بعدل على أعضاء القيادة المقربين. وذكر صلاح عمر العلي وحامد الجبوري هذه الفضيلة في خصائل صدام، فقال صدام وقتها للصحافي: بس أشعله "بشخاط" عراقي.

ويظنُّ أن المشهد مكتوب في سيناريو أدّاه رئيس العراق الظافر بإتقان، فلم يكن أحد ليجرؤ على إنكار التدخين على الرئيس العراقي ولو حرصا على صحته.

وكان معدو مؤتمر "فرنسا- أفريقيا" في مدينة مونبليه جنوب فرنسا؛ قد جمعوا لرئيس فرنسا ماكرون ثلاثة آلاف شاب مسومين بأحسن الأزياء حتى يوزع دم الديمقراطية على القبائل، بعد شهور خمسة من الإعداد والفحص والانتقاء، ودرسوا السير الذاتية للمدعوين واحداً واحداً حرصاً من معدّي المؤتمر وصنّاعه على تجنيب الرئيس الفرنسي العلماني الحرج والمطبّات، وأن تظهر له عظْمةٌ في الكِرْشة.

وزعمت صحف أن بعض الشباب والشابات أحرجوه، ولم أجد فيها إحراجاً، فقد كانت أسئلة ناعمة استطاع تفاديها في المسرحية التي حرص معدّوها على تشكيل المؤتمر بالأزياء الأفريقية الغريبة، ليس فيها زيّ إسلامي واحد، مع أنّ عدد المسلمين في القارة السمراء يبلغ نحو 400 مليون وأزيد.

اختاروا من يكلم الرئيس، وقدموا من شاؤوا إلى المنصة، وكانت أعلى الناقدين كعباً وقبعة كما ذكرت وسائل الإعلام؛ شابةٌ سمراء، صفق لها الجمهور على بسالتها، وشكرت صاحبة القبعة المخروطية الجميلة الجمهور، في أداء مسرحي على التصفيق. وكانت كلمتها مكتوبة، وتحدثت في جمل مسرحية أدبية عن الوعاء الملوّث، وطالبت ماكرون بتنظيف الوعاء، وتعليم الأفارقة الصيد، وليس إعطاءهم السمكة.

وكان ماكرون يبتسم بنيوب بارزة، ويكاد يصفق لها طرباً. وقد ردّ لها الجواب، فأحسن الجواب، فليست فرنسا هي التي تضع الغرامات وتزج في السجون يا آنسة، فرنسا موجودة عسكرياً بناء على طلب الدول الأفريقية: "لست أنا من سأذهب إلى المدرسة، ولست أنا من سأكون الشرطة. لن يحل التدخل العسكري أبداً محل عمل الدولة".

التدخل العسكري يختار الحكام ويجلس ويراقب وينتقدهم بشدة، من غير أن يتدخل في شؤونهم الداخلية!

قال في جوابه إنه اعتذر من الحركيين الجزائريين.. والحركيون هم الذين عملوا في خدمة فرنسا ضد شعبهم وبلدهم.

لا بأس بتلك الانتقادات الأفريقية والأزياء الجميلة والأشعار اللطيفة التي سنحتفل بها يوماً ثم تُنسى.

twitter.com/OmarImaromar