قضايا وآراء

لبنان: بين البيطار والمطار

1300x600
ملفت كل ما جرى يوم الخميس شكلا ومضمونا، إنه نهار استثنائي بكل المقاييس.. إنها صور نسينها، ولكن يصر البعض على استحضارها في القضاء والسياسة والأمن والفلتان، كأن هذا اللبنان لا ينقصه من المآسي إلا موت بنيه على شرفات المنازل.

أيعقل في بلاد باتت كل تقارير الفقر والجوع والإفلاس في العالم تتحدث عنها يوميا ويجري فيها ما يجري؟! بلاد تحدث البنك الدولي منذ يومين عنها قائلا إن التضخم فيها بلغ 130 في المائة، في حين تقارير ووقائع تتحدث عن 400 في المائة، مع نمو سلبي بأكثر من 11 في المائة، والوقائع تقول إنه دون 18 في المائة، وإجمالي ناتج قومي انخفض إلى النصف وأكثر.. وحدث ولا حرج عن نكسات اقتصادية واجتماعية لا تعد ولا تحصى، ليأتي الخميس الدامي حاملا المصائب من كل حدب وصوب، وحاملا انشقاقات لا نعرف أين تبدأ وأين تنتهي.

الانشقاق الأول محلي حزبي بامتياز بين أنصار القاضي البيطار والمرتابين من البيطار، وبينهما لا طريق للبنانيين على ما يبدو إلا طريق المطار؛ كيف لا وكل ما يحدث يؤدي إلى مسار الحرب الأهلية بكل مشاهدها المقيتة والمؤسفة والحزينة؛ التي تبدأ من ترويع العزل في الشوارع والأطفال في المدارس وقلوب أهاليهم التي خُلعت من مكانها حتى اطمأنت عليهم.

الانشقاق الثاني حكومي لحكومة ليس لها في القصر إلا من البارحة العصر حيث اهتزت وربما تقع قريبا بفعل التحقيق بانفجار المرفأ (بيروتشيما)، حيث أعلنها صراحة أمين عام حزب الله وبكل وضوح أنه يرتاب ويرغب بإقالة القاضي البيطار وعبر مجلس الوزراء، وإلا فالذهاب إلى تطيير الحكومة برفقة الحلفاء، علما أن هناك مطبا في الطريق مع الرئيس ميشال عون من جهة ومع التيار الوطني الحر من جهة أخرى؛ دونما الحديث عن أطراف أخرى هي نفسها تخشى الضغط الداخلي والخارجي عليها، خاصة أنه حتى الساعة لم تفتح لها الأبواب بانتظار خطواتها الإصلاحية، فهل تشكل إقالة البيطار خطوة إصلاحية؟

حُكما برأي الميقاتي ومن معه ومن خلفه أن قرار بقاء القاضي مسألة جوهرية لكيلا يعاب على الميقاتي أنها حكومة حزب الله، كما يقال في الأروقة المواجهة، وعليه يبدو أن الحكومة ستلفظ أنفاسها الأخيرة قريبا إما من الداخل الراغب بإزاحة البيطار، وإما داخليا وخارجيا عبر الداعمين لبقاء البيطار.

من هنا يمكننا الحديث عن الانشقاق العابر للدول، حيث قالت الولايات المتحدة عبر نيد برايس، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، خلال مؤتمر صحفي: ندعم استقلال القضاء اللبناني وندعو سلطات البلاد إلى تسريع وتيرة التحقيقات حول انفجار مرفأ بيروت، في إشارة واضحة لدعم البيطار.

على الجبهة الأخرى، جاءت عدة أصوات وتقارير وافتتاحيات لتؤكد أن هناك قرارا أمريكيا بريطانيا خليجيا بتفجير الساحة الداخلية في لبنان عبر إشعال "فتيل المرفأ"؛ لقلب الرأي العام قبيل أشهر قليلة من الانتخابات النيابية المقبلة. وعليه دخلت السفيرة الأمريكية في بيروت دوروثي شيا على الخط، وأرسلت بحسب معلومات "البناء" مساء الاثنين تهديداً مباشراً للمسؤولين؛ مضمونه بأن كف يد البيطار سيعرض لبنان إلى عقوبات قاسية ومدمرة، وهذا ما دفع إلى تأجيل الجلسة. لذلك أشارت المصادر إلى أن الوضع الراهن في غاية التأزم ويتجه إلى مزيد من التصعيد في الساعات المقبلة.

والحكومة في وضع لا تُحسد عليه ووضِعت أمام خيارات صعبة وأحلاها مرُ، ففي حال كفت يد البيطار ستعرض البلد لعقوبات أمريكية، وهي التي تحاول جاهدة التخفيف من هذه العقوبات وحشد الخارج للدعم المالي، أما إذا أبقت على البيطار في منصبه، فإنها تنصبه حاكماً بأمره، وبالتالي استكمال إصدار المزيد من مذكرات التوقيف وجر البلد إلى أتون الفوضى الأمنية. وعليه، هل باتت المعادلة الجديدة بين الحرب الأهلية بمسمياتها المختلفة تحت ذريعة بقاء البيطار في موقعه أو إزاحته.

والانشقاق الثالث هو انشقاق مجتمعي في وطن سماه ذات يوم البابا يوحنا بولس الثاني بأنه وطن الرسالة، حيث تكثر الدعوات إلى الفيدرالية والقومية وأيدولوجيات جديدة. فكل شارع بات مشروع حرب أهلية، وقوى التطرف ربما تحضر في مجتمعات متهيئة لكل شيء؛ ليس أقله محور الطيونة- الشياح- عين الرمانة، علما أنه منذ أشهر كان الحديث عن انفصال طرابلس عن الوطن وقبلها دعوات باتجاه البطرك الراعي والحديث يطول، فهل يحتمل المجتمع اللبناني مزيدا من الانقسامات؟!

والخوف كل الخوف في المرحلة المقبلة من سكوت صوت الحكمة والعقل، وعليه يؤدي المسار إلى أن التاريخ يعيد نفسه. ويبدو أن بوسطة 1975 في عين الرمانة تحضر الآن مجددا في عين الرمانة- الطيونة، وعليه بين معادلة بقاء القاضي البيطار وإزاحة القاضي البيطار لم يبق للبناني إلا سلوك طريق الهجرة والمطار.. حمى الله لبنان واللبنانيين.