آراء ثقافية

أنتوني وأليس.. ثمينة هي الذكريات!

قضية التقدم في السن، ومرض الزهايمر موضوع في غاية الأهمية
بعد مشاهدة فيلم "The Father" ستشعر برغبة قوية بالبكاء، فعلى الرغم من كونه عملا هادئًا ممتلئًا بالعواطف وممزوجا بالضحكات والدموع، إلا أن كل ذلك لا يخفي قسوة الفيلم وقوته في دفع باب قلبك وتحطيمه من الداخل، حتى تلك العبارات ذات النفس الرومنسي التي دست في سيناريو العمل بمهارة كانت موجعة حد الألم، وأثارت العديد من الأسئلة التي لا نجرؤ على طرحها، وحتى أننا لم نعد نملك وقتا للتفكير فيها، وتأمل أنفسنا والإحساس بالأقربين، لكن الفنان فلوريان زيلر استطاع أن يأخذنا في رحلة إلى أكثر الأماكن تشويشا وعمقا، فتجد نفسك واقفا أمام أب عانى من فقد ابنته وزوجته، وبدأت ذكرياته بالتراجع أمام وحشية مرض الزهايمر!

ينقلنا المخرج إلى شقة صغيرة حيث الأب الذي تريد ابنته الرحيل عنه وإقناعه بقبول ممرضة تقوم على رعايته قبل انتقالها إلى باريس من أجل الزواج من رجل تحبه، يشعر الأب بالحزن الشديد، خصوصا عندما يعلم بأن ابنته تنوي وضعه في دار العجزة في حال لم يقبل بوجود من يقوم على رعايته، ثم تبدأ الأحداث والمشاهد بالتتابع بشكل فوضوي وغير منطقي، فحين يتحدث الأب مع زوج ابنته حول رغبتها بالسفر مع رجل فرنسي لباريس، تأتي ابنته وقد أحضرت معها دجاجة من السوق، لكنها ليست الابنة نفسها التي ظهرت في البداية، ثم يخبرها بما دار بينه وبين زوجها، فتخبره بأنها منفصلة منذ سنوات وغير متزوجة ولا تنوي الذهاب لباريس، ولا وجود للدجاجة أصلا!

تستمر الفوضى ويزداد الأمر تعقيدا ليكتشف المشاهد بأنه موجود في رأس الأب المصاب بالزهايمر وتحديدا في ذاكرته، فقد أصبح المشاهد يرى ما يراه بطل الحكاية ومشوشا مثله، ويعيش تجربته بحذافيرها، وهذا ما يعزز لديه شعور التعاطف مع الأب المريض، ويجعله أكثر تفهما لما يدور في رأس مريض الزهايمر بشكل عام، وما يدور في عقل البطل بشكل خاص، فيحظى بتفسيرٍ لما يقوم به المريض من أفعال وتصرفات تتأرجح بين اللطف والعنف، واختلاط الأحداث الماضية بالأحداث الحاضرة، كما تتداخل لديه رغباته والواقع، فلا يعود يفرق بينهما!

ويجد المتابع نفسه أمام كومة من الأحداث والذكريات ألقيت في وجهه، يناقض بعضها الآخر، ولا يدري ما هي الحقيقة بالتحديد، فيحاول الإمساك بالخيط، ومعرفة الأشياء على طبيعتها، لكن ذلك غير ممكن طالما أن الحكاية ترويها ذاكرة تختنق تحت وطأة الزهايمر، لقد نجح المخرج بنقل هذا النص المسرحي المبهر والذي حاز على العديد من الجوائز من الخشبة إلى شقة صغيرة، وهو ما لم يكن صعبًا، كونه بدأ مسرحيًا، وحقق نجاحًا عاليًا، فكيف إذا تم نقله إلى مكان أكثر اتساعًا بقليل، ونقلته كاميرات معتادة على الاحتيال على المشاهد وإغراقه في الحدث بصورة أعمق.. وبالطبع فإن أداء أنتوني ساهم بشكل كبير في النهوض بالعمل، وأقل ما يمكن القول عن أدائه بأنه مبهر، واستحق جائزة الأوسكار، إذ بدا وكأنه خُلق لهذا الدور..

طرح الفيلم العديد من النقاط الهامة، دون التصريح بها بشكل مباشر، بل ترك للمشاهد، والذي رأى بعضا مما يعانيه مريض بالزهايمر، مهمة التقاطها وسؤال نفسه عما يعنيه كل ذلك، ما معنى أن نفقد الذاكرة، وأن نصبح تائهين بتلك الطريقة القاسية، وما هو شعورنا لو كنا نرى أحبتنا يذبلون شيئا فشيئا بحيث لا يمكنهم معرفتنا، وهل سنطيق احتمالهم بيننا عندما يجرحوننا بأسوأ الكلمات وهم لا يدركون ذلك؟ وهل سنختار الوقوف إلى جانبهم أم سنحاول الفرار من المسؤولية الأخلاقية الكبرى تجاههم ونكمل حياتنا؟ لقد اختارت ابنة أنتوني العيش في باريس وأودعت أباها دار رعاية المسنين، وهو الجزء الأكثر إيلاما، تكتب له رسالة ينساها ويعيد قراءتها كما لو أنها المرة الأولى، وتزوره مرة في العطلة، يستمر الأب في النسيان والبكاء، يتعمق شعوره بالوحدة، وينهشه خريف العمر وحيدًا..

يذكرني هذا الفيلم بفيلم "still alice" بطولة جوليان مور، الأستاذة الجامعية المصابة بمرض فقدان الذاكرة المبكر، وبدأت تنسى شيئا فشيئا، وقد كان مؤثرا جدا محاولتها لتأخير أعراض مرضها، فبذلت مجهودا كبيرا في ذلك لتحمي ذكرياتها أطول فترة ممكنة، لكنها فشلت، وقد كانت أليس مدركة تماما لمعنى أن تصاب بالزهايمر، فتتبول على نفسك، وتقول وتفعل أمورا فظيعة دون أن تدرك، فعزمت على تصوير فيديو لنفسها بهدف الانتحار ليذكرها بمكان حبوب ترديها ميتة، فلا تكون بذلك حملا زائدا على عائلتها وكائنا يتمنى الجميع بسريرته الخلاص منه ليُريح ويستريح، وربما أرادت أليس أن تبقي ذكراها مشرقة لدى عائلتها وأصدقائها بأن تموت واقفة، لقد فعلت أليس ذلك وهي تعي أنها وبمجرد الانتهاء من تصوير الفيديو ستنسى أنها قامت بذلك أصلا!

لم تستطع أليس الانتحار، لكن موقف الزوج والأبناء كان رائعا بمساندتهم لأليس، فعندما كان زوجها يبدل لها ثيابها بعد تبولها على نفسها قال لها "الذي يحيا معك عمرا بأكمله ويعرف عنك الكثير، هو الذي يستطيع أن يتقبلك مهما حدث ويحبك إلى الأبد"، لقد عرض فيلم "still alice" معاناة مريض الزهايمر إنما من الخارج، بينما كان فيلم الأب متجها إلى الداخل، ويعرض الموقف المناقض، حين يتخلى عنا من نحبهم، ومن أعطيناهم كل ما نستطيع لجعلهم سعداء.

إن قضية التقدم في السن، ومرض الزهايمر موضوع في غاية الأهمية، وقد تم طرح هذه القضية بطرفيها، أعني المريض وعائلته، في العديد من الأعمال التلفزيونية والسينمائية، ولو عرضا، وأذكر إحدى حلقات المسلسل السوري "شبابيك"، وهو مسلسل بحلقات منفصلة كل واحدة تعرض حكاية مختلفة، ناقشت حكاية "زهايمز" الصراع الذي يعيشه الأبناء الذين يعيشون حياتهم الخاصة ويتحتم عليهم في نهاية الامر الاعتناء بأحد ذويهم أو كليهما، وقد كان عماد يعيش حالة من الضياع بين واجبه الأخلاقي تجاه أبيه المصاب بالزهايمر والذي يسكن معه في نفس المنزل، وبين زوجته التي تعبت من الاعتناء بذلك العجوز كثير المتاعب..

هذه الأعمال التي صورت معاناة أولئك الذين يفقدون ذكرياتهم حتى إنهم يصبحون بالكاد يعرفون أنفسهم تجيب عن سؤال ما إذا كان فقدان الذاكرة نعمة أو نقمة بأنه نقمة وكارثة حقيقية، فإذا ما تمنينا ذلك يوما فعلينا إعادة التفكير بالأمر، فحتى الذكريات المرتبطة بالمواقف المؤلمة والسيئة هي نعمة بحد ذاتها، تذكرنا بأن مصير كل ما كان جارحا ومؤذيا بالنسبة لنا أن يدهس تحت عجلات الحياة التي لا تكف عن الدوران، وهو ما يصنعنا ويجعلنا ما نحن عليه، أما بالنسبة للذكريات السعيدة فهي أثمن ما قد يملكه الإنسان.