قضايا وآراء

الجزائر والمغرب.. و"الفايك نيوز"

1300x600

ما السر في توالي الأخبار الزائفة التي ترِدُ بشكل مُنتظِمٍ على لسان الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، وكذا من وسائل الإعلام الحكومية حول مؤامرات خارجية غير متأكد من صحتها أو أحداث تاريخية متخيلة أو وقائع لا تمت للواقع والتاريخ بصلة؟ 

في نظر جل المراقبين، كل هذا ليس إلا محاولة يائسة لِلَفْتِ الأنظار عن الأزمة السياسية الخانقة التي تعيشها الجزائر منذ انطلاق "الحراك" قبل ثلاث سنوات، والذي يطالب بوضع حد لسيطرة العسكر على الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد، ووضع الجزائر على سكة دمقرطة حقيقية، والقيام بإصلاحات جذرية كفيلة بضمان نمو وازدهار اقتصادي حقيقي. 

عِوَضَ مواجهة مسببات الأزمة مواجهة شجاعة وفتح حوار حقيقي مع الشارع والقيام بإصلاحات عميقة وقطيعة جذرية مع الفساد والريع وسيطرة اللوبيات المتمكنة من البترول والصفقات العسكرية الضخمة، يبدو وكأن جزءا من الطبقة السياسية والأجهزة والعسكر مُصِرٌّ على تصدير الأزمة نحو المغرب وفرنسا وأخيرا أضيف لها إسرائيل وعلى إعادة كتابة التاريخ والوقائع كتابة زائفة وحتى على اختلاق المؤامرات لصرف النظر عن الواقع المُرّْ الذي خلقته عقود من سوء التدبير والفساد والريع والقمع.

بالفعل لا يصدق الشارع الجزائري هذه الأكاذيب ولا تنطلي عليه المؤامرات الملفقة كما يبدو من وابل السخرية التي ترافق المحاولات الرسمية اليائسة لتصدير الأزمة. ولكن سياسة "الفايكنيوز" المُعتمدة رسميا في الجزائر والتي ارتفع منسوبها أخيرا تُظهر مدى إصرار الطبقة الحاكمة على التشبت بالسلطة ولو أدى ذلك إلى افتعال حرب مع المغرب لصد الأنظار عن حالة اليأس والتذمر الداخليين. 

حين قال الرئيس تبون في العاشر من تشرين الأول (أكتوبر) الحالي بأن جورج واشنطن أهدى الأمير عبد القادر مسدسات (لتبيان عمق العلاقة بين الجزائر والولايات المتحدة)، وهو أمر مثير للسخرية لأن الأمير عبد القادر وُلِد في 1808 بينما توفي واشنطن تسع سنوات قبل ولادة الأمير، أي في 1799، تكونت لدى الشارع الجزائري ورواد وسائل التواصل الاجتماعي قناعة بأن النظام مستعد لفعل أي شيء حتى تزوير التاريخ للترويج لعظمة تاريخية متخيلة كفيلة بالرد على من ينتفضون ضد النظام السياسي والعسكري. 

بالنسبة للرئيس تبون فَمَنْ يؤمن بعظمة الجزائر التاريخية (ولو كان مُفْترىً عليها) سوف لن ينبهر بمطالب الحراك التي تريد تغيير النظام، نفس النظام الذي هو وليد وحفيد الأمجاد الغابرة لعظماء مثل الأمير عبد القادر وهو يتلقى هدايا من جورج واشنطن. 

 لهذا نفهم لماذا كان الرد الرسمي الجزائري عنيفا حين قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 30 أيلول (سبتمبر) 2021 بأن الجزائر لم تكن أمة أو دولة قبل 1830 (بالإضافة إلى كونها تئن حاليا تحت سيطرة خانقة للجيش): لقد ضرب ماكرون في العمق أطروحة الاستمرارية التاريخية كرد على من يريدون التخلص من النظام الحالي، لأن هذا النظام هو الحارس الأمين الساهر على انصهار التاريخ والثورة والجيش في صيرورة واحدة هي الجزائر بعظمتها غير المنقطعة منذ العصر الروماني حتى العصر الحالي. 

الردود الرسمية على ماكرون كانت هي أن الجزائر قائمة  وموجودة منذ ما قبل الميلاد (ر.ت. عربي، "ردا على تشكيك ماكرون.. مسؤول جزائري يكشف عن دليل يعود إلى ما قبل التاريخ" 31 أكتوبر/تشرين الأول 2021). ولكن استدعاء السفير الجزائري في فرنسا وتعليق رحلات الطيران العسكري الفرنسي فوق الأجواء الجزائرية دليل على أن ماكرون وضع أصبعه على قضية بالغة الحساسية في الأطروحة الرسمية المُواجِهة لموجة التغيير السلمي الذي يريده الحراك الجزائري. 

لكن أمر الافتراء على الواقع بلغ ذروته حين أصدرت الشرطة الجزائرية بيانا حول سبعة عشر شخصا قدمهم التلفزيون الجزائري يوم 13 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري على أنهم عملاء لـ "الحركة من أجل تقرير مصير القبايل" المُفترَض بأنها مدعومة من طرف المغرب وإسرائيل. حين قام رواد وسائل التواصل الاجتماعي الجزائريين بالتدليل على أن هؤلاء هم عملاء للمخابرات الجزائرية وكشفوا أسماءهم وتاريخهم وعلاقاتهم، انقلب السحر على الساحر وبدا أن من يتآمر على الشعب الجزائري، ليس هو المغرب أو إسرائيل أو الحركة القبائلية، ولكن النظام نفسه بمخابراته وصحافته ومسؤوليه. 

عِوَضَ الإقرار بكون حرائق الصيف الماضي أبانت عن ضعف في سياسات ووسائل التعامل مع الكوارث الطبيعية لدى الحكومة الجزائرية واتخاذ القرارات الضرورية لتجاوز الأمر حاضرا ومستقبلا، لجأت الجزائر الرسمية إلى القول بأن من أشعل الحرائق هو المغرب ولذا وجب قطع العلاقات معه وحظر المجال الجوي أمام طائراته. 

 

لصورة التي يريد حكام الجزائر إيصالها هو أن البلد محاصر من طرف الأعداء ومن يريد تغيير النظام فهو متآمر مع المتآمرين.

 



هذه أطروحة لم تنطل على الشارع الجزائري كذلك ولكنها بينت تناقضا صارخا في الخطاب الرسمي تجاه المغرب. من جهة هناك صورة يتم النسج لها بإصرار، وأحيانا بيأس كبير، تقول بأن المغرب متخلف وفقير يعيش على المخدرات والتردي الاجتماعي، (عبد القادر مساهل وزير الخارجية الأسبق قال بسذاجة لا دبلوماسية وصبيانية غريبة بأن الخطوط الملكية المغربية متخصصة في حمل المخدرات إلى إفريقيا مما جر عليه وابلا من السخط والسخرية) وفي نفس الوقت هو بلد له من الذكاء والفعالية والتجربة الميدانية تجعله يُشعِل الحرائق في قلب التراب الجزائري ويحيك المؤامرات ويتحكم في كل شادة وفادة في الجزائر (الدليل على ذلك إصرار وسائل الإعلام الرسمية على إرجاع كل ما يقع في الجزائر من مشاكل إلى المغرب.) 

لا يكاد يمر يوم دون أن تسمع أخبارا زائفة من الساسة الجزائريين ووسائل الإعلام وبعض المحسوبين على الجهات الرسمية حول المؤامرات التي يحيكها الأعداء، وعلى رأسهم المغرب، ضد الجزائر. الصورة التي يريد حكام الجزائر إيصالها هو أن البلد محاصر من طرف الأعداء ومن يريد تغيير النظام فهو متآمر مع المتآمرين. أطروحة مضحكة تماما ولكن الشارع الجزائري كان كل مرة يتصدى بالمرصاد لهذه المؤامرات المتخيلة بالحجة والدليل. نعم ينقلب السحر على الساحر ولكن إصرار النظام على خلق الأكاذيب لِلفْتِ الأنظار عن الواقع الداخلي المهترئ قد يؤدي إلى ما لا تُحمَد عقباه. 

هل ستضطر المؤسسة العسكرية لافتعال حرب ضد المغرب للهروب إلى الأمام وخلق عدو واضح عن طريق الرصاص والدم؟ هذا ما يخافه الكثير من المراقبين وما يُقلِق "الحراك" الجزائري. هل من حكيم داخل النخبة الحاكمة يدعو إلى تغليب لغة العقل والحوار والسلم والتعايش؟ هذا ما يتمناه الجميع وما سيظهر جليا في المستقبل القريب.

 

*نائب برلماني ووزير مغربي سابق