مقالات مختارة

لماذا عرضت إسبانيا وساطتها على الجزائر والمغرب؟

1300x600

الوضع الطبيعي، عندما تحدث توترات بالقرب من بيتك، فإنك لا تتردد في أن تساعد جيرانك على تطويقها حتى لا تمتد إليك. لكن إن كنت أنت السبب المباشر، أو غير المباشر في إذكائها، فهل إنك سترغب حقا حينها في فعل ذلك؟ والسؤال هنا، وفي علاقة بالتوترات الجزائرية المغربية هو، هل يمكن للإسبان أن يكونوا وسطاء نزيهين في ذلك الملف؟ ثم قبل ذلك هل تقبل الجزائر، ومن حيث المبدأ بالوساطة في خلافها مع المغرب؟ أم أنها تضع شرطا خفيا لها وهو وجود وسيط دون آخر؟
إن لغة المسؤولين الجزائريين لا تدع مجالا للشك في أنهم يرفضون الفكرة في المطلق، ولا يبدون حماسة لأي وساطة، غير أن ذلك قد لا يكون سوى مظهر خادع يغطي على توجههم لتفضيل واحدة على أخرى.

 

ولعله كان واضحا منذ أن قطعوا الطريق على مساع عربية وخليجية لتطويق الأزمة، ولم يلتفتوا لتعبير نواكشوط عن عزمها بذل مساع في ذلك الاتجاه، إلى أنهم كانوا يفكرون بوسيط أو بوسطاء آخرين، لكن من هم؟ وهل يمكن أن يكونوا جيرانهم الشماليين، أي الإسبان من بينهم؟ المؤكد أنهم بعيدون عن ذلك، والثابت أيضا أن الأمر يزداد تعقيدا، فيوما بعد الآخر يصبح نزولهم من أعلى الشجرة بعد اللاءات التي رفعوها في وجه الدعوات العديدة التي صدرت من أكثر من جهة، لإقناعهم بمد أيديهم لجيرانهم، وطي صفحة الخلافات وفتح صفحة أخرى في علاقاتهم بهم، أكثر عسرا من السابق.


ومع أن الإسبان أبدوا في البداية قدرا من اللامبالاة بالتطورات التي كانت تحصل جنوب حدودهم، إلا أنهم كشفوا الآن عن رغبتهم في القيام بمسعى لتقريب الفرقاء، آخر هذا الأسبوع بمناسبة اجتماع متوسطي سيعقد في برشلونة، لكن السؤال الأهم هو ما الذي جعلهم يفعلون ذلك، ويطرقون بابا هم أكثر من يعلم أن فتحه قد يحتاج لمعجزة؟ هل أن النوايا الطيبة هي التي حملتهم إلى ذلك؟ قد يرد البعض بأنهم ليسوا الوحيدين الذين أعلنوا عن تلك الرغبة، فالموريتانيون قد عرضوا بدورهم وساطتهم بين الجارتين، لكن حتى إن تقاطعت رغبات الطرفين، فإن الحسابات الإقليمية لمدريد ونواكشوط تظل مختلفة. فلئن كان ممكنا أن نجد تفسيرا لتصريحات وتلميحات المسؤولين في نواكشوط، إلى تطلعهم لأن يقوموا بدور ما في حل التوتر القائم بين الرباط والجزائر، وذلك بحرص الموريتانيين على أن لا يدفعوا غاليا ثمن أي تصعيد إضافي قد يحصل بين البلدين، بحكم عوامل جغرافية وديمغرافية معروفة، فإنه سيكون من الصعب أن نجد بالمقابل تبريرا مقنعا لإعلانات مماثلة تصدر في هذا الوقت بالذات من مدريد.

 

ولا شك في أن استفهامات عديدة تحوم حول السبب الحقيقي الذي دفع وزير الخارجية الإسباني خوزيه مانويل ألباريس، على سبيل المثال، لأن يصف الثلاثاء قبل الماضي في تصريح لصحيفة «الديارو دي سيبيا» الإيبيرية، المغرب والجزائر بـ»البلدين الشريكين لإسبانيا وللاتحاد الأوروبي» و»معهما نبني العلاقة في البحر الأبيض المتوسط» على حد تعبيره. ثم يقول بعدها وفي نبرة أشبه ما تكون بإعلان احتفالي عن حدث استثنائي، أو إنجاز عظيم سيحصل في غضون الأيام القليلة المقبلة، أنه و»خلال يومي الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من الشهر الجاري ستحتضن برشلونة اجتماعا لاتحاد المتوسط، حيث سنبحث هذه القضايا».

 

فمن الواضح أنه وفي الظاهر، فإن ذلك يعكس وبشكل كبير قلق مدريد من الوضع الحرج وغير الطبيعي، الذي تمر به العلاقات المغربية الجزائرية منذ عدة شهور، وتخوف إسبانيا من أن تتحمل ولو قسطا من عواقب أي تصعيد إضافي قد يحصل في تلك العلاقات في مقبل الأيام.

 

لكن إلى أي مدى تبدو تلك الحجة منطقية ومعقولة؟ أليس من مصلحة إسبانيا أن يحصل العكس، وأن يستمر العداء والقطيعة بين الجارتين المغاربيتين؟ ثم على فرض أن البلدين المتنازعين قد توصلا إلى تطبيع علاقاتهما وجلسا بعد طول انتظار إلى طاولة المفاوضات، وفضا كل أو جل المشاكل العالقة بينهما، فما الذي ستكسبه إسبانيا حينها من وراء ذلك؟ ألن تكون هي الخاسر الأكبر من توافق أكبر قوتين في الشمال الافريقي؟ المنطق يفترض أن المحرك الأقوى لتصريحات المسؤول الإسباني هو، رغبة الإسبان في إعادة التموقع في المنطقة، وتطلعهم لاستعادة زمام المبادرة والتقاط الخيوط والأوراق الإقليمية، التي بدأت تخرج من بين أيديهم، أكثر من أي شيء آخر، ولو كان ذلك من خلال إعطاء الانطباع بأنهم الشرطي الصغير للإقليم. فالوساطات أو محاولات الوساطة بين طرفي نزاع لا تحتاج لإنجاحها لتصريحات إعلامية، بقدر ما تتطلب مساعي جدية وأعمالا جانبية بعيدا تماما عن الأضواء.

 

ولأجل ذلك يبدو أن الحرص الإسباني على إطلاق تلك التصريحات يعكس، وإلى حد كبير، نوعا من الاحتجاج غير المباشر لمدريد على إقصائها من لعب دور الوسيط في ملف الخلافات المغربية الجزائرية، وعدم حماس البلدين، أي الجزائر والمغرب، وبشكل واضح لأن تتولى الوساطة بينهما. ألم يعد وزير الخارجية الإسباني من زيارته للجزائر، أواخر سبتمبر الماضي، بوعد باستمرار تزويد إسبانيا بالغاز الجزائري، بدون أن يعرف أحد لا الطريقة التي قد يتم بها ذلك، ولا تصور مدريد، إن كان للقرار الجزائري انعكاس على علاقتها بالرباط؟ وما قاله الجزائريون حينها بشكل أو بآخر للإسبان هو لا شأن لكم بخلافاتنا مع جارتنا الغربية، وتأكدوا فقط أن قرارنا غلق أنبوب الغاز الذي يربط بيننا وبينكم ويمر عبر المغرب، لن يكون له تأثير عليكم، ثم ألا يدل تعثر التطبيع بين مدريد والرباط على أن الأخيرة حتى إن قبلت فكرة التفاوض مع الجزائر، ورحبت بها فإنها قد لا تكون متحمسة بشكل كبير لأن يتوسط الإسبان في الملف.

 

لكن هل يعني ذلك، أنه لن يكون ممكنا أن نرى السبت أو الأحد المقبلين مصافحة تاريخية بين وزيري الخارجية المغربي والجزائري، في مؤتمر برشلونة المتوسطي؟ ليس مؤكدا أنه في حتى في حال ما إذا حصل ذلك أن يكون الأمر نتيجة لجهود إسبانيا، بل محصلة مباشرة لوساطة أخرى قادها على الأرجح طرف أو أطراف غيرها. غير أن مجرد وجود ولو مؤشر بسيط على بداية ذوبان الجليد بين الجارتين، قد يحسب في إسبانيا على أنه نصر للدبلوماسية الإيبيرية وربما يجعل مدريد تمضي أبعد فتنتظر من العاصمتين المغاربيتين عوائد على ذلك الإنجاز. ولا شك في أن الهزائم والنكسات التي منيت بها تلك الدبلوماسية في المنطقة المغاربية ليست بحاجة لدليل، فالتطورات التي حصلت هناك في غضون عام واحد فقط أثبتت أن الإسبان فقدوا تأثيرهم ووزنهم، ولم يعودوا اللاعب الإقليمي الأكبر، خصوصا بعد تداعيات استقبالهم لزعيم البوليساريو بشكل سري. أما كيف سيتصرف المغرب والجزائر مستقبلا مع مدريد، إن تمكنا من تطبيع علاقاتهما؟ فذلك هو الكابوس الذي يؤرق الإسبان أكثر مما قد يشغلهم تواصل التوتر بينهما إلى أجل مفتوح.

 

(القدس العربي اللندنية)