قضايا وآراء

الرئاسيات الفرنسية القادمة.. السياق والتوقعات

1300x600

يفصلُ الفرنسيين عن تاريخ تجديد انتخاب رئيسهم أقلّ من ثمانين يوما، ففي العاشر من شهر نيسان/ أبريل 2022، ستنظم فرنسا الجولة الأولى من الاقتراع الثاني عشر منذ تأسيس الجمهورية الخامسة وصدور دستور 4 تشرين الأول/ أكتوبر 1958، والانتخاب الحادي عشر منذ أن أصبح الرئيس منتخبا بواسطة الاقتراع العام المباشر، وفقا للفصل السادس من الدستور الذي منحه إمكانية الترشح للرئاسة مرتين ليس إلا، وحصر ولاية حكمه في خمس سنوات عوض سبعة أعوام كما كانت من قبل.


شرع الاستعداد للاقتراع القادم منذ سنتين، وتسارع إيقاع التنافس خلال السنة المنصرمة (2021)، وينتظر أن يشتد أكثر في الأيام القادمة مع الانطلاق القانوني الرسمي للحملة الانتخابية. وإذا كان الرئيس الحالي "إمانويل ماكرون" لم يعلن بعد عن ترشحه لولاية ثانية، فإن كل الدلائل تُشير إلى أن اسمه سيكون ضمن قائمة المتبارين على كرسي الرئاسة، بل إن نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة رجحت فوزه على باقي المتنافسين.

تجري رئاسيات فرنسا القادمة في سياق خاص ومعقد، وأمامه الكثير من التحديات، ودون شك سيكون له بالغ التأثير على أداء المتنافسين، والتوقعات الخاصة بمن سيظفر منهم بمنصب الرئاسة. فهناك جائحة كورونا التي أنهت سنتها الثانية، والأمل كبير في انتهائها في القادم من الشهور، وحتى على احتمال تحولها إلى وباء موسمي، ستعيش فرنسا - كباقي دول العالم - مخلفاتها في الاقتصاد وإعادة انطلاقه وتقوية نسيج مؤسساته، وفي المجتمع من خلال ترميم الفجوات المادية والنفسية الناجمة عن مواجعها وأوجاعها، وفي العالم الذي شرع في التغير بشكل مضطرد ومتسارع. ففرنسا اليوم تبدو مريضة، تشكو من أكثر من ألم في مفاصل مؤسساتها، وفي علاقة هذه الأخيرة بالمجتمع ومكوناته، ويكاد الفرنسيون في عمومهم يطرحون سؤال: لماذا أوضاع فرنسا على هذا الحال؟ وما السبيل للخروج منه، وصناعة مستقبل أفضل؟

تجري رئاسيات فرنسا القادمة في سياق خاص ومعقد، وأمامه الكثير من التحديات، ودون شك سيكون له بالغ التأثير على أداء المتنافسين، والتوقعات الخاصة بمن سيظفر منهم بمنصب الرئاسة

ليس غائبا عن الفرنسيين فهم مصادر أحوالهم وأسباب مواجعهم، فالتاريخ والخبرات المتراكمة أكسبتهم ثقافة طرح الأسئلة، وامتلاك سلطة الإجابة عنها، ومع ذلك الكثير منهم ومن نخبهم يحارون من تفسير أوضاعهم من أجل النجاح في تغييرها نحو الأفضل. لذلك، يعبر سياق الإعداد للرئاسيات الفرنسية المقبلة عن هذه الحيرة، وينطوي على الكثير من مظاهرها ومؤشراتها.

فالمشهد السياسي موسوم بتفكك قوى اليمين وانشطارها، وضعف التفافها حول أرضية مشتركة، تمكنها من اكتساب قوة الظفر في الاقتراع القادم، ويوجد إلى جانبها يسار ضعيف وواهن، ومفتقد للوجوه والشخصيات السياسية القادرة على جذب الجسم الانتخابي إلى صفه، أو صفوف تعدد مكوناته. ولعل من أبرز مظاهر هذه الحيرة، التي تملكت عقول الفرنسيين ووعيهم الجمعي، تراجع الأسماء السياسية الكبيرة ذات الطبيعة الكاريزمية الجاذبة، كما كان الحال في العقود التي أعقبت ميلاد الجمهورية الخامسة، لعل آخرها الرئيس الأسبق "جاك شيراك".

فلو أمعنّا النظر في الجانب السياسي لسياق الرئاسيات الفرنسية القادمة، للاحظنا أن الولاية الأولى لحكم "ماكرون" شهدت قضايا وتحديات لم تجد طريقها إلى الحل، على الرغم من سعي الحكومات المتعاقبة لمعالجتها، بل ما زالت مفتوحة، وسيكون لذيولها - دون شك - تأثيرات على الاقتراع الرئاسي القادم، أبرزها حراك أصحاب "السترات الصفر" (gilets jaunes) ومطالبهم التي لم تحسم بعد، ثم استراتيجية مواجهة الجائحة والسياسات المعتمدة لتدبيرها، والتي شقت المجتمع الفرنسي وما زالت حتى الآن تؤثر في حياته العامة، خصوصا من زاوية سياسات الإغلاق، وفرض الجواز الصحي وإجبارية جواز التلقيح، يُضاف إلى ذلك الارتفاع المتزايد لكلفة المعيشة، وتصاعد الانقسامات الاجتماعية التي أضعفت التلاحم الوطني وعقدت سبل العيش المشترك، وحولت فرنسا إلى أوطان بصيغة الجمع، وليس وطنا بالمفرد. لذلك، فبقدر ما ستؤثر هذه القضايا والتحديات ومخلفاتها على فرص إقناع "ماكرون" الفرنسيين بالتصويت عليه لولاية ثانية، بالقدر نفسه ستشكل مصدرا خصبا لمنافسيه من اليمين واليسار للضغط عليه بُغية إضعاف حظوظ إعادة انتخابه.
المشهد السياسي موسوم بتفكك قوى اليمين وانشطارها، وضعف التفافها حول أرضية مشتركة، تمكنها من اكتساب قوة الظفر في الاقتراع القادم، ويوجد إلى جانبها يسار ضعيف وواهن، ومفتقد للوجوه والشخصيات السياسية القادرة على جذب الجسم الانتخابي إلى صفه

تبدو قائمة المرشحين للرئاسيات القادمة التي أعلن رسميا عن أسمائها، والتي ستكتمل في الأيام القادمة، أنها غير محفزة ولا مقنعة بأن ثمة من يشكل بديلا حقيقيا محتملا عن الرئيس الحالي، على الرغم من إنجازات ولايته الأولى ظلت حتى الآن غير مقنعة، ومفتوحة على المستقبل.

فاليمين الذي فاز "ماكرون" من داخل مكوناته عام 2017، لم يكن منقسما كما هو اليوم، إذ باستثناء انسحاب "فرانسوا فيون" (Fillon) بسبب اتهامات الفساد التي وجهت إليه، ظلت كتلة "الجمهوريين" قاطرة اليمين واليمين الوسط، والأمر نفسه بالنسبة لليمين المتطرف، حيث خاضت "ماري لوبين" وحدها غمار الاقتراع، أما اليوم فاليمين المتطرف منقسم على نفسه بين هذه الأخيرة و"إريك زيمور"، الذي سطع نجمه وينتظر أن يكون له شأن في الرئاسيات القادمة.

أما اليسار، فالوهن دبّ في جسمه منذ نهاية ولاية "فرانسوا ميتران"، واستفحل مع نهاية "فراسوا هولاند"، ويقدم اليوم صورة شاحبة وضعيفة في المشهد السياسي الفرنسي، ولا يبدو أنه قادر على إعادة بناء مجده السابق.

الخلاصة إذن أن الرئاسيات الفرنسية القادمة التي سيتم إجراؤها في سياق الجائحة، والاقتصاد الذي أضعفته تأثيرات الوباء والانكماش العالمي، والاختلالات الاجتماعية التي ما انفكت تتعمق بالتدريج، لن تترك خيارات كثيرة للفرنسيين، بل ستدفعهم دفعا نحو المرشح الأقل ضررا مما هو متاح، وفي الظن أن المتاح أمام الناخب الفرنسي هو "إمانويل ماكرون" ليس إلا.