كتاب عربي 21

الأردن بين منخفضين.. قطبي وسياسي!

1300x600
ما أن انتهت فرحة الأردنيين بالزائر الأبيض، وبدأوا بتفقد حجم خسائرهم (راحت السكرة وأجت الفكرة كما يقولون)، بدأت عملية تقاذف الاتهامات، في نفس وقت تقاذف كرات الثلج، غير أن العملية الأولى خلت من المرح، وخالطتها مرارة لم تزل تفترش مساحات واسعة من حياة المواطن.

الأمر لا يقتصر فقط على انقطاع التيار الكهربائي عن آلاف الأسر الأردنية، ناهيك عن انقطاع خدمات الإنترنت (منها بيتي حيث لم يزل النت فايبر مقطوعا عن بيتي حتى ساعة كتابة هذه السطور!)، والخسائر الفادحة التي لحقت بممتلكات المواطنين والمزارعين جراء تكسر الأشجار وفيضان المياه والصقيع وما فعله بالمزروعات، وتحطم عدد غير معروف من المركبات.

والحقيقة التي يدركها كثيرون أن المسؤول الأول عن كل ما جرى، هو الحكومة بالدرجة الأولى، فهي كما هو مفترض "السلطة التنفيذية" وتمتلك سلطات غير محدودة هذه الأيام مع تفعيل قانون الدفاع، وكان ولم يزل بوسعها أن تفعل الأفاعيل لو كانت تملك زمام أمرها، ولو لم تكن حالة الترهل الشامل والخراب الممنهج قد ضربت كل مفاصل الدولة، الأمر الذي يجعل الأردني في بحث دائم عن طرق الخلاص، والأهم من هذا: ما إذا كان هناك نية حقيقية أصلا في البحث عن حلول حقيقية تخرج البلد من عنق الزجاجة!
الحقيقة التي يدركها كثيرون أن المسؤول الأول عن كل ما جرى، هو الحكومة بالدرجة الأولى، فهي كما هو مفترض "السلطة التنفيذية" وتمتلك سلطات غير محدودة هذه الأيام مع تفعيل قانون الدفاع، وكان ولم يزل بوسعها أن تفعل الأفاعيل لو كانت تملك زمام أمرها، ولو لم تكن حالة الترهل الشامل والخراب الممنهج قد ضربت كل مفاصل الدولة

من يرقب ما يجري في العمق الأردني يصاب بالهلع، ويدرك أن البلد ليست بخير فعلا، وقد تكون جالسة على برميل بارود، فمستوى "التذمر" إن جاز التعبير، طاول كل شيء، وقفز عن كل ما يسميه البعض "الخطوط الحمراء"، بل لم يعد ثمة رمز من رموز الدولة بمنأى عن النيل منه على نحو أو آخر، وبالجملة، باتت البلاد على شفير هاوية لا يعلم أحد متى تنزلق إليها.

هل فات الوقت على تدارك الأمور؟

ببساطة: لا، فثمة متسع للإنقاذ، ولكن الأمر يحتاج إلى قرار فعلي، لا إلى ألاعيب تستهدف إطالة الملهاة، وشراء الوقت، وصرف الأنظار عن مكامن الخطر الحقيقي!

في هذه السطور سأحاول أن أضع وصفة حقيقية للخلاص، قد تكون نافعة لدى صاحب القرار إن أراد أن يستمع لصوت الشارع الحقيقي، بعيدا عن تقويمات "بطانة السوء" المنتفعة أصلا من "ضياع الطاسة" وديمومة حالة غياب المساءلة.

وقبل هذا، يدرك كاتب هذه السطور أن موقع الأردن الجيوسياسي، فرض عليه استحقاقات معينة، كبلت يديه إلى حد كبير وساهمت في توفير ذرائع لصاحب القرار للامتناع عن إجراء أي إصلاح حقيقي. ولا نريد هنا أن نقول أكثر من أن هذا الموقع أثقل كثيرا على مدى استقلالية القرار الوطني، وحد من حركته في الفضاء الحر، ومع هذا بقيت مساحة كافية تحسن من حياة الناس وتنضج تجربته السياسية ولو بالحد الأدنى. لكن الذي حصل أن استحقاقات الموقع أتاحت إيجاد ذرائع للقمع حينا ولنهب مقدرات الوطن أحيانا، وسلب المواطن حقه في العيش بمستوى معين من بحبوحة الحياة، فكأنه فرض عليه أن لا يموت جوعا وأن لا يشبع إلى حد التفكير بحقوقه الأساسية والمطالبة بها، وأن يبقى في منزلة بين المنزلتين، وإن كان أقرب أكثر اليوم من مرحلة الجوع والفاقة!
استحقاقات الموقع أتاحت إيجاد ذرائع للقمع حينا ولنهب مقدرات الوطن أحيانا، وسلب المواطن حقه في العيش بمستوى معين من بحبوحة الحياة، فكأنه فرض عليه أن لا يموت جوعا وأن لا يشبع إلى حد التفكير بحقوقه الأساسية والمطالبة بها، وأن يبقى في منزلة بين المنزلتين، وإن كان أقرب أكثر اليوم من مرحلة الجوع والفاقة!

وصفتنا بسيطة وسريعة، ويمكن إجمالها في عدة نقاط:

أولا: على صاحب القرار أن يأخذ قراراته بعيدا عن الخوف الدائم من الإخوان المسلمين ورهن كل قراراته بإيجاد كل الطرق والتشريعات الكفيلة بتحجيمهم وتهميشهم ومحاصرتهم، فهم جزء من هذا الوطن، ولهم حقوق مواطنة متساوية مع أي مكون آخر، وهم أكثر حرصا على أمن الوطن من أكثر الأجهزة الأمنية حرصا وإخلاصا، والتجارب أثبتت هذا في أكثر من مفصل تاريخي يعرفه صاحب القرار ومن يمتلك ذاكرة وطنية نقية، والأهم من هذا كله أن أي محاولة لنفيهم خارج الوعي الجمعي الأردني محكومة بالفشل، ليس لأنهم سوبرمانات أو عباقرة، لا، بل لأنهم يحملون هوية الوطن الحضارية الدينية وهي هوية غير قابلة للتذويب والنفي، بل هي هوية هاضمة وماصة لكل التشوهات والهويات التفتيتية.

ثانيا: القضية الفلسطينية قضية مزمنة، والتذرع بوجودها عائقا أمام أي إصلاح حقيقي لم يعد يقنع أحدا، فثمة متسع من القرارات بعيدا عما يمكن الإسهام في تصفيتها أو تهديد الهوية الوطنية الأردنية. هناك مجال لصناعة حياة أردنية حقيقية مريحة للمواطن مع الحفاظ على هذه الهوية، إن خلصت النوايا.

ثالثا: هناك جملة من الإجراءات الجريئة لا بد من القيام بها لإعادة بناء الثقة بين المواطن وأصحاب القرار، وأهمها وقف الملاحقات لصوت الموطن الحر، وإطلاق سراح كل صاحب رأي، وعدم اللجوء للقبضة الأمنية لحل فوري لمواجهة أي تحرك وطني. وللوصول إلى هذه الحالة لا بد من إعادة الهيبة للقضاء واستقلاله "الحقيقي" وفك ارتباطه القهري والقسري بوزارة العدل، وبالتالي الفصل الفعلي بين السلطات، وصولا إلى حياة برلمانية حقيقية (لا ديكورية!).. أما قصة التعديلات الدستورية فأي تعديل "جذري" على القانون الأساس للدولة يغير هويتها والأساس الذي أقيمت عليه؛ لا يتم عبر استفتاء شعبي حر وحقيقي وشفاف فلا يعتد به، وهو بمثابة انقلاب أبيض على "العقد الاجتماعي" الذي قامت عليه الدولة.

رابعا: في الجانب الاقتصادي، البلد بحاجة لإلغاء كل الهيئات المستقلة وإعادة السلطة للوزارات، والتوقف تماما عن سياسة الجباية المتوحشة التي تعتمد على جيب المواطن لتوفير حياة الرفاهية لطبقة متنفذة، تعتاش على دم الناس، وفي الأثناء التوقف عن انتهاج سياسة فرض ضرائب "احتيالية" تتفنن في إفقار المواطن، وإناطة هذا الأمر بالقانون الصريح المباشر فقط. ومن المهم هنا إعطاء ديوان المحاسبة صلاحيات الضابطة العدلية وعدم اكتفائه بالقيام بدور التشخيص فقط، لوقف توحش الاعتداء على المال العام والإفلات من العقاب!
أما قصة التعديلات الدستورية فأي تعديل "جذري" على القانون الأساس للدولة يغير هويتها والأساس الذي أقيمت عليه؛ لا يتم عبر استفتاء شعبي حر وحقيقي وشفاف فلا يعتد به، وهو بمثابة انقلاب أبيض على "العقد الاجتماعي" الذي قامت عليه الدولة

خامسا: هناك اعتقاد بات يتسع في الوعي الجمعي الأردني باتجاه "الدور الصهيوني" في حياة الأردني، ربما يتسامح المواطن مع الضغط الذي أدى لإبرام معاهدة وادي عربة، لكنه اليوم بات يعتقد أن هناك محاولات لبناء "شراكة" مع عدو لا يؤمن بالشراكة أصلا، ما يعني أن أي اتفاق أو صفقة أو إجراء يرهن حياة ومستقبل الأردني بيد العدو هو نوع مستحدث من الاحتلال الطوعي، يضع الأردن في عين الخطر الذي لحق بفلسطين، الأمر الذي يستدعي إبقاء العلاقة مع العدو في الحد الأدنى (المجبر عليه صاحب القرار) الذي يبقي الأمن الوطني الأردني في منأى عن أي خطر. وبمعنى أكثر وضوحا، إن لم يستطع صاحب القرار قطع العلاقة مع العدو نهائيا، فليبق هذه العلاقة في الحد الذي لا يرهن مستقبل البلاد والعباد بيد عدو متوحش ينظر إلى ضفة النهر الشرقية نظرته لضفته الغربية، و"الحدق يفهم" كما يقولون!

سادسا: هناك ثلاثة قطاعات في البلد هي عنوان نهضته ومفتاح خلاصه، الأول قطاع التعليم، وهو يحتاج لإعادة بناء كاملة ورد الاعتبار للمعلم ونقابته، والثاني قطاع الزراعة فهو أحد عناوين الاستقلال والأمن الغذائي، وهو يحتاج لعملية إنقاذ فورية قبل أن يفلس بالكامل، والثالث قطاع الصناعة والاستثمار، وبدونه لا أمل بالمساهمة في تشغيل العاطلين عن العمل ونهضة الاقتصاد..

وتبقى مسألة في غاية الخطورة، يجب أن يعرف الأردنيون لِمَ تتغير الوزارات، ولِمَ ترحل ويأتي غيرها، ولِمَ يأتي فلان وزيرا، ولِمَ يُقال، وبالتالي يجب أن تبدأ عملية توزير الخبراء والمصلحين لا الاستمرار في عملية تدوير المناصب العليا بين مجموعة صغيرة من "علية القوم!"..

وأخيرا..

كل جهد إصلاحي لا يأخذ بعين الاعتبار هذه المرتكزات هو بمثابة "تغميس خارج الصحن"، ولعب في الوقت الضائع وإطالة مدى الأزمة، وبالتالي الانزلاق سريعا نحو الهاوية!

المنخفض القطبي رحل بفرحه وترحه، لكن المنخفض السياسي لم يزل رابضا على صدور الناس، ولا يعلم أحد متى يتحول إلى عاصفة هوجاء لا تبقي ولا تذر.