كتاب عربي 21

لصوص المواطنة.. المواطنة من جديد (92)

1300x600

من أخطر الأمور أن تُنشَأ مؤسسات للقيام بواجبها للقيام بحقوق الإنسان وأدوارها في حماية حقوق المواطنة ثم تقوم بنقيض تلك الوظائف والأدوار في تبرير ظلم السلطات المستبدة وانتهاكها اليومي لحقوق مواطنيها، وكذلك منظمات لا تتحدث عن الانتهاكات الحقوقية أو عن حقوق المواطنة بكل تنوعاتها وامتداداتها، ولكنها آثرت أن تضلل وتلتف على القضايا الحقيقية وتذهب بعيدا لتهتم بغيرها، فتتحدث على سبيل المثال ليس عن كل القضايا التي تتعلق بكل الحقوق في الداخل ولكنها تتخذ من الحديث عن الدول الأخرى غطاءً لتبرير مسلكيات السلطة في الانتهاك المتكرر، ولعل هذا يبرز في هيئات حقوقية بعينها بدا لها أن تكتب تقارير حقوقية وتصدر بيانات صحفية لأغراض تتعلق بالتمويل الخارجي ولكنها في حقيقة الأمر تتحدث عن كل الدنيا ولا تتحدث عن مصر وحالة الحقوق فيها.
 
يذكرني ذلك بأمرين مهمين؛ الأمر الأول، تلك اللجنة التي قامت لتقصي الحقائق في مسألة فض رابعة والنهضة برئاسة المستشار فؤاد عبدالمنعم، في محاولة من الدولة، لامتصاص المطالبات الدولية والداخلية بالتحقيق في هذه المجازر، وذلك إبان السنة الأولى بعد الانقلاب على عهد الرئيس المؤقت (عدلي منصور) ومن الواضح أن النظام عمل من البداية على أن تكون تلك اللجنة أداة لتزييف الحقائق ومحاولة تمرير ذلك الحدث بحيث لا يعلن عن مسؤولية النظام والأجهزة الأمنية وحكومة الببلاوي آنذاك، بل كانت نيتهم تبرئة ساحتهم، وإدانة الحدث في ذاته، وقد اتضح ذلك جليا بعدما وضح أن التحقيق كان صوريًا وشكليًا ادعت فيه اللجنة أن العناصر الإخوانية التي دُعيت للإدلاء بشهادتها في ذلك قد امتنعت عن الإدلاء بالشهادة، وهو أمر نفاه كثيرون رغم عملية الترويع الكبرى التي حدثت إبان ارتكاب هذه المجازر وما لحقها خصوصا وأن النظام قد أصر على أن تكون عملية الفض واحدة من آليات الترويع والتخويف للمجتمع المصري عقب الانقلاب، وتصدير استراتيجية الإسكات بالقتل أو التخويف، تمهيدا لفرض القهر وكبت كل ما يتعلق بوقائع هذه المذبحة التي رأينا طرفًا منها مصورًا وموثقًا (ضمن تعاملات مرعبة وصلت إلى حد حرق الناس وتفحم الجثث، ونقل الجثث بالكراكات وغيرها من معدات) وعلى الرغم من هذا يتحدثون عن شهادات دون توفير أي حد أدنى من الحماية لهؤلاء حتى تأتي شهادتهم صادقة ومعبرة عن الواقع. 

ومن المؤسف حقا أن تقوم هذه اللجنة من بعد ذلك بإصدار تقريرها وتسليمه إلى الرئيس المؤقت في رئاسة الجمهورية الذي بدوره أرسل التقرير إلى الأجهزة الأمنية وبعض أجهزة وزارة الدفاع، وقد تحفظت تلك الأجهزة ـ رغم أن التقرير قد كُتب على نحو مضلل ومن دون شهادة الكثير من الأطراف من الضحايا والمستهدفين في اعتصام رابعة والنهضة ـ وطالبت بحذف عبارات تشير من طرف خفي لمسؤولية بعض هذه الأجهزة عما حدث في فض الاعتصامين، وطالبت وزارة الدفاع ممثلة في المنقلب في هذا السياق بضرورة حذف كل العبارات التي تتعلق بمشاركة ضباط من الجيش في فض الاعتصام، وظهر التقرير أخيرًا يعبر عن رأي المجرم الذي ارتكب تلك المجازر وتبرئته منها وإدانة من وقع عليه الفض والقتل والاستهداف، بل إن الأمر بعد ذلك وصل إلى قيام الأجهزة الأمنية بتلفيق محاكم وقضايا لعدد من الشخصيات العامة والرافضة للانقلاب تحت مسمى (فض رابعة)، وقد أصدرت المحكمة التي نظرت في هذه القضية أحكاما بالإعدام والسجن المشدد على معظم المتهمين فيها، مما يعني أن الأجهزة الأمنية لم تكتف بالقتل والحرق الذي وقع في الميادين ولكنها ألحقت ذلك بمعاقبة الشهود والرافضين لسلوك الأجهزة في تلك المذابح. 

 

تأتي من بعد ذلك تلك الاستراتيجية المعلنة لحقوق الإنسان ضمن عملية تبييض وجه النظام التي حملت عناصر تلك الاستراتيجية صورة وردية تتعلق بالحالة الحقوقية، وحملت كثيرا من فائض الكلام وزخرف القول؛ رغم أن الكل يعلم وكثير من الدول الغربية تتحدث والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية ترصد وتصدر تقاريرها المختلفة حول موضوعات انتهاكات حقوق الإنسان في مصر

 



كما يذكرني هذا المسلك أيضا بقيام المجلس القومي لحقوق الإنسان بزيارات مدبرة ضمت بعض أعضائه لعدد من السجون المصرية، وتصدروا الإعلام بعدها ليدلوا بشهادات أكدوا فيها أن السجون المصرية في أفضل وضع وأن المساجين في رغد العيش، وأن الحقوق التي تتعلق بهم مصونة لا تقبل المساس، وتحدثوا عن الخدمات التي تقدمها السجون حتى تندر البعض على تلك التصريحات التي صورت السجون وكأنها فنادق خمس نجوم، ولم يكتفوا بالتنافس في عرض مزايا السجون بل دعموا شهاداتهم بتصريحات لبعض المسجونين المغلوبين على أمرهم، إلا أن هذه الرواية لم تصمد كثيرا خصوصا عندما شارك أحد السجناء المفرج عنهم شهادته عبر منابر دولية إعلامية وسياسية أكد فيها أن تلك الصورة زائفة تهدف لتبييض وجه النظام، وإن صح التعبير حالة من حالات غسيل الانتهاكات بواسطة المنظمات الحقوقية ومجلس حقوق الإنسان القومي التابع للنظام. 

ثم تأتي من بعد ذلك تلك الاستراتيجية المعلنة لحقوق الإنسان ضمن عملية تبييض وجه النظام التي حملت عناصر تلك الاستراتيجية صورة وردية تتعلق بالحالة الحقوقية، وحملت كثيرا من فائض الكلام وزخرف القول؛ رغم أن الكل يعلم وكثير من الدول الغربية تتحدث والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية ترصد وتصدر تقاريرها المختلفة حول موضوعات انتهاكات حقوق الإنسان في مصر المتعددة والممنهجة والتي تعد طقسًا يوميًا فيما يتعلق بحال المعتقلين والمسجونين، وكذا فيما يتعلق بحال المواطنين الذين أصبحوا في حال مطاردة جماعية ويومية وأشار البعض إلى توقيف واعتقال بعض المواطنين بشكل عشوائي واعتبارهم من مصادر الدخل من خلال إحالتهم للنيابة والإفراج عنهم بكفالات تزيد عن 20 ألف جنيه لكل مواطن من الموقوفين.

وضمن بناء هذه الرؤية الزائفة سنرى تلك الحملة الدعائية التي ارتبطت ببناء مجمع للسجون والتي أكدوا في إعلانها أنها فرصة للحياة، أي حياة تلك التي يمكن أن تمارس داخل السجون، أي حياة تلك ونحن نرى تلك المعاملة داخل السجون فيُقضى على بعضهم جراء القتل البطيء بما يسمى بالإهمال الطبي، ويُلقى بعضهم في سجن مستمر من خلال عملية التدوير التي ليس لها أي سند إلا أن يظل ذلك المواطن مسجونًا بأمرهم، يدور من قضية إلى أخرى أي فرصة للحياة تلك وقد سجنوا هؤلاء في زنازين انفرادية كعقوبات إضافية فضلًا عن حرمانهم من أي حقوق للسجناء وحرمانهم من رؤية ذويهم ورؤية ذويهم لهم، إن هذا الاستخفاف والاستهانة ليس في الحقيقة إلا أعلى درجات اللصوصية في سرقة هذه الحقوق وامتهانها ثم الحديث عن فضل النظام في رعاية هؤلاء داخل السجون وترويعهم في خارجها.

ولم تكتف هذه المنظمات بسرقة المجال العام والترويج للنظام وتمرير انتهاكاته، بل وصلت إلى أنها باتت تقطع الطريق على المنظمات الحقوقية المصرية والدولية في المناسبات الحقوقية الإنسانية من خلال إصدار تقارير بعناوين حقوقية ومضامين استبدادية تحرص فيها على استغلال تلك المناسبات لتشويهها وملئها بفارغ الكلام الذي يتعرض لدول أخرى دون أي إشارة لما يحدث في مصر..

 

ومن ذلك ما فعلته منظمة "ماعت" على سبيل المثال في اليوم العالمي للتسامح حينما أصدرت تقريرًا يتحدث عن غياب فضيلة التسامح في معظم دول العالم عدا مصر، التي لم يتعرض لها التقرير من قريب أو بعيد، هكذا تفعل هذه المنظمات بسرقة المجال العام وقطع الطريق على من يحاول أن يحافظ على وعي الناس ويتمسك بالأمل في التغيير.
 
كل ذلك جعل مصر بحق "مصر المحبوسة" وبات هؤلاء يسرقون كل آمال المواطن في نيل حقوقه وفي ممارسة حياته الاعتيادية، ونشلوا كل ما يتعلق بتلك الأهداف التي تتعلق بشعارات الثورة (عيش كريم، وحرية أساسية، وكرامة إنسانية، وعدالة اجتماعية)، لقد سرق كل هؤلاء في ميدان الواقع كل الحقوق وزيفوا من خلال تقاريرهم ومؤسساتهم ووثائقهم حال الحقوق وكأن الدولة قد أعطت المواطن أكثر من حقوقه وأنها تقوم على تدليله لا إذلاله؛ إنهم بحق لصوص المواطنة.