كتب

الصوفيّة في السنغال.. هل ترتبط بحركة التجديد العربي؟ (2من2)

يهتم المسلمون في السنغال بالطرق الصوفية، ويقبل أغلبهم على المشاركة في الحضرات وحلقات التصوف- (الأناضول)

الكتاب: "جهود الشّيخ أحمد التجاني سه في الدّعوة والإصلاح"

المؤلّف: بابا عرفان آدم صار
الناشر: مجمّع الأطرش للكتاب المختصّ
الطبعة الأولى: 2022
عدد صفحات الكتاب: 176

جهود الشيخ التجاني الدّعويّة


يثمّن الكاتب جهود الشيخ أحمد التجاني سه الدّعويّة التي أثمرت من حيث إسهامها البارز في تربية الناشئة وتوجيهها نحو الالتزام بالأصول والمناهج الشرعيّة ومراعاتها، فضلا عن تأصيلها. تأصيل شرعي وفلسفي عبر "رؤية وحدة المحرّكات الحياتيّة ورصد المؤشرات الخلقيّة والإيمانيّة الدّالّة على تماثل الموازين الحاكمة والمسيرة للحياة البشرية والمخلوقات والكون وفهم ضرورة تناسق الخطّة والتوجّهات الدّعويّة معها وذلك في علاج الفتور، وأن تهب الخطّة الكثير من العناصر الجيّدة لهذا العمل العام".

ولذلك تجاوزت مكانة الشيخ أحمد التجاني مهام الشخصية الوطنية المنخرطة في شؤون الإصلاح الديني والمجتمعي والسياسي داخل السنغال، إلى ما هو ممثلا لمشعل الدّعوة الإسلامية وناشر الثقافة العربيّة الإسلاميّة داخل البلاد وعنوانا بارزا للزعامة الدّينية الواعية بالتحدّيات السياسية والجغرافيا لدول الساحل وجنوب الصحراء، في سبيل تركيز تحررها الوطني الملتزم بعمقها التاريخي والحضاري.
 
معالم الفكر الإصلاحي عند الشيخ أحمد التجاني

يشير الكاتب إلى نجاح الشيخ أحمد التجاني سه في اكتساب مهارة الاطلاع والكتابة، إذ بدأ مسيرته العلميّة محررا العديد من الكتب من أشهرها كتابه "مجهول الأمّة السنغاليّة" وكتابه "الإسلام في السنغال" الذي اعتبر فيه أنّ "الإسلام دين تطوّر وأنّ المسلم جزء متطور بأسمى معاني التطوّر من الحكمة لا شريك فيها وأنّ حياته المزدوجة مرحلة من مراحل هذا التطوّر"، ومن هذا المنطلق تأتي إثارة الشيخ لإشكاليّة حقيقة المسلم: أهو ذلك المتديّن المحصور الذي يعيش بالأماني ويتغذّى بالظنون؟ أم أنّه هو ذلك الإنسان المعترف بوجود الحقيقة الأولى والشاهد على الآيات التي تنسب إلى هذه الحقيقة؟

ويمكن القول إنّ هذين الكتابين يمثلان امتدادا لمسيرة فكره الإصلاحيّة الدّينية، حيث يشير في كتابه "مجهول الأمّة السنغالية" إلى معارضته بعض الممارسات التطبيقية التي كانت سائدة لدى بعض البيوتات الدّينية كالسجود على أيدي الأئمّة، كما يشير فيه إلى فساد الدّين محاولا تصحيح بعض النظريّات والمفاهيم والأفكار والعقائد الخاطئة التي يعتبرها دخيلة في الدّين الإسلامي ومضرّة تصيب الإسلام، كالأكل باسم الدّين والاتجار بأسماء الله تعالى (فقد كان أكثر المسلمين في السنغال يظنون أنّ حقيقة الدّين لا توجد إلاّ وراء ضغط السبحة). وذلك تقريبا هو نفس المنحى الذي اتجه إليه الشيخ محمد عبده في الإصلاح، يضيف الكاتب.

أمّا كتابه الثاني الذي جاء بعنوان "الإسلام في السنغال"، فجاءت فيه دعوته صريحة إلى ضرورة الاجتهاد وتجديد الدّين وخطابه وتخليص العقول من التقليد والاتكالية وإعادة قراءة التجربة النبوية بما يمكّن من الاستلهام منها والاقتداء بها. وفي هذا يقول الشيخ أحمد التجاني سه في هذا كتابه "الإسلام في السنغال" إنّ "الإسلام ليس دينا فحسب، بل هو دين ونظام سياسي عجيب، وإنّ محمّدا كان في الوقت نفسه رئيسا للدّين ورئيسا للدّولة، بل كان نبيّا في معنى رائف من الكلمة، وكان بعد ذلك سياسيّا حكيما..، فدعوة الإسلام لا تفسد الطبيعة ولا تذرها كالمعلّقة، ولا تعوق أبناء الطبيعة عن التطوّر كما زعم المتدهورون...، وإذا رأى المسلم نفسه في واد من الانحطاط فذلك لأنظار وعادات ونظم يرثها عن آباء".

الشيخ التجاني والثورة العارمة في العقليات والأفكار

لقد كان من مخاوف الشيخ أحمد التجاني سه في يوم ما أن يستحيل غلبة الدّين على العادات في الوسط المجتمعي إذ ليس من السهل أن تسوس أو تدعو مجتمعا تغلب فيها العادات والتقاليد. وإلى هذا المعنى أشار في قصيد من البحر الطّويل: ففي أرضنا عاداتها وطباعها....وليس لنا عقل نجا من عِقاله.

كان الشيخ يطمح في إنشاء ثورة بالمعنى الكامل للكلمة لتجاوز معوقات الحاضر السنغالي من خلال دعوته إلى إصلاح العقول وتجديد الخطاب الدّيني والاجتهاد هو المنهج الذي رآه سبيلا للخروج من الانحطاط والركود والجمود الفكري، فعقل المسلم المعاصر في نظره مطالب بإعادة بناء نظامه المعرفي في كلّياته الثلاث: العقيدة والمعرفة والقيمة، أو إعادة خطابه الفلسفي بما يسمح له بالاقتراب من أكثر من تجربته الحضاريّة في علاقتها بالعالم الحاضر عن طريق إدراك طبيعة القواعد التي تحرّك العقل وتدعوه إلى التفكير وتبني الحضارة انطلاقا من تراثه ومرجعيته التاريخية.

 

وذلك مرآة عاكسة لما ذهب إليه جمال الدين الأفغاني من "إصلاح العقول والنفوس"، ولما ذهب إليه خير الدّين باشا في مقدّمة كتابه "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" من أهميّة هذا العنصر في تقدّم الأمم، ولعلّ الشيخ أحمد التجاني يشير إلى هذا المعنى في قوله من البحر البسيط:
 
فالعصر عصر نضال في مخاطرة           نضال فكر إذا ما غلبوا غُلِبا

ولذلك يخلص الكاتب إلى أنّ دور الشيخ التجاني إيقاظ الضمائر وتعبئة الهمم ولمّ الجهود وصقل الوعي وترسيخ روح الإبداع وتحميس الشباب على مواجهة الظروف، وإقناع الجماهير بضرورة خوض غمار الحياة لتحقيق حياة دينية مثلى بدلا من الجمود والرضوخ والتربع في أحضان الزوايا، وذلك مما ساهم في إشعال أحداث "تواوون" ودفع أبناء الشيوخ والمستعربين والمفكّرين الثوّار الأحرار للتمرّد ضدّ الهيمنة وضدّ الاحتكار السياسي والإداري، سواء من البيض أو السود المستعمرين وعملائهم من السنغاليين، وأحدث التجاني ثورة عارمة في الأفكار وضجّة في العقليات والعقيدة والعبادة والعلاقات، وتركت هذه الثورة أثارا عميقة في الأجيال السنغالية المتعاقبة، يضيف الكاتب.

تشابه تجربة الشيخ التجاني وتجربة الشيخ عبد العزيز الثعالبي

يؤكد الكاتب وجود نقاط تشابه بين شخصيّة الشيخ أحمد التّجاني سه وشخصيّة الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي سعى في إصلاح واقع جامع الزيتونة الأعظم في بدايات القرن العشرين وتطوير التعليم فيه متماهيا مع روح العصر، وكان له من الجرأة أن طرح فكرة تجديد الفكر الدّيني الذي كان من أهمّ مداخله قضيّة المرأة وما يتعلّق بضرورة تحريرها وتعليمها. 

طرح الشيخ عبد العزيز الثعالبي في تونس قضية المرأة بجرأة كبيرة، في كتابه "روح التحرر في القرآن" جعلته عرضة لاتهامه بالزندقة وحوكم بالسجن ثلاثة أشهر، لما اعتبرته النخبة التقليدية مسّا بمكاسبها العلمية، وخوفا على عقائد الناس من الانحراف على حدّ قولها. 

وكان الشيخ الثعالبي قد طالب النساء بكشف وجوههن ونزع "العجار" (قطعة ثوب تغطّي الوجه فقط) ولا ينبغي لهنّ الانزواء في بيوتهن والاحتجاب عن الأنظار، ويتحتّم عليهن طلب العلم والالتزام بسلوك لائق ومحترم. 

فكانت النتيجة أن دفع ضريبة هذه الأفكار التحررية المتمرّدة على سلطة شيوخ جامع الزيتونة التقليديين وزعماء الزوايا والطرق الصوفية المحافظة، ومقاربته الحزبية والسياسية العصرية المحدثة وتأسيس الحركة الوطنية التونسية وقيادتها ملاحقات وسجونا ومعتقلات ومنافِ.

خصوصية الإصلاح الصوفي في السنغال

يستنتج الكاتب أنّ من أهمّ مقوّمات فكر الشيخ التجاني الإصلاحيّة ومعالمها أن يجعل من الدّين أساسا ينطلق منها لإزالة تلك الشوائب العالقة به، ومن ثم الاتجاه إلى هدفه الذي كان "يتمثّل في تربية المجتمع مع توعيته، ليخلص في الأخير إلى ساحة السياسة وميدانها وليثبت مدى أهميّة حاملي الثقافة العربية الإسلاميّة وفاعليتهم في المجتمع". ولأجل ذلك كان هدف الشيخ تفنيد الفكرة الرائجة عن شيوخ الصّوفية والتي تختزل دورهم في "أداء الشعائر الدينيّة والتربّع في الزوايا، ولا دخل لهم في أمور السياسة". ما يعني أنّ الشّيخ أكّد على الذّات الوطنيّة السنغاليّة، وجذّر الوعي الوطني داخل حدود الممكن للنخبة السنغالية، يضيف الكاتب.

ولئن اتسم القرن التاسع عشر ميلادي بالإصلاح السياسي لخير الدّين باشا وأحمد بن أبي الضّياف (توفي 1874 م)، ومع الكواكبي في نقد الحكومات الإسلامية الذي أغلق الشرق أبوابه من بعد ابن خلدون، ومع الأفغاني بالإصلاح الجوهري (العقول)، ومع محمّد عبده في مصر من خلال فكره التجديدي الرّامي في دعوة إلى انفتاح الفكر الإسلامي التقليدي على المنظومات الفكريّة والمناهج العلميّة الحديثة وبعث إحياء الأسس العقديّة الصحيحة للدّين الإسلامي، فإنّ ما يميّز دعاوى روّاد الإصلاح في السنغال هو "الإصلاح الاجتماعي والدّيني الصّوفي.

الحركة الصوفية في السنغال وإرث الاستعمار الفرنسي

يؤكد الكاتب الدّور المهم الذي لعبه مشايخ الصّوفيّة في الدفاع عن الإسلام وحفظه أمام المهمّة الاستعماريّة الغربية التي طالت إفريقيا والعالم، خاصّة عندما نعلم أنّ الاستعمار الفرنسي قد عمل على إبادة المجتمعات الإفريقية من خلال اتباع سياسة الاستيعاب عبر فرض أنظمته الثقافية وقيمه. فالمشايخ الصوفية وطرقها "ظلّت محصّنة من غوائل الحضارة الغربيّة وأفكارها المنفلتة عن الدّين والتربية الروحيّة والسلوك القويم".

وعلى خصوصيّة الإسلام في السنغال، من حيث هو تديّن صوفي طرقي متميّز عمّا سواه من جهة تأثره بالمحيط الثقافي التقليدي وتأثره كذلك بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المحلّي، فقد نجح الشيخ أحمد التجاني سه في تجربته الدّعويّة الإصلاحيّة، إذ "استطاع أن يثير الحيويّة في أحداث بعيدة عن أذهان المدعوّين في زمانها ومكانها، فتتحوّل من أخبار جامدة لا تعنيهم إلى أدوات لزرع الأفكار فيهم وإثارة المشاعر والأحاسيس النبيلة".

لقد مثّلت أسس دعوة الشيخ أحمد التجاني سه وضوابطها أداة من أدوات الإقناع، وساعدت على التحوّل في شخصيّة المؤمن بمعتقد جديد وقيمه وأخلاقه. واستطاعت أن تؤثر به كمنهج تربوي يصوغ المسلم صياغة دينية أخلاقيّة كاملة. وبذلك ليس من المبالغة في شيء عندما نجزم بأنّ جهود الشيخ أحمد التجاني سه في الإصلاح، مثّلت أحد أهم مقوّمات المشروع النهضوي التحديثي، من جهة أنّها شكّلت التطبيق العملي للتجديد باعتبارها تجسيدا للمفاهيم التي بشّر بها رجال الإصلاح في المشرق والمغرب العربي، يضيف الكاتب.

 

إقرأ أيضا: الصوفيّة في السنغال.. هل ترتبط بحركة التجديد العربي؟ (1من2)