أفكَار

عن سجال الشهادة والرحمة على شيرين أبو عاقلة.. نقاش هادئ

الكاتب والباحث اللبناني فيصل جلول يناقش مبررات القائلين بعدم الترحم على الراحلة شيرين أبو عاقلة

علّق بعض رجال الدين على اغتيال شيرين أبو عاقلة من باب وجوب الترحم عليها أو الامتناع عنه. قلة من المعلقين اعتبروا أنه لا يجوز الترحم على غير المسلمين، فالرحمة محصورة بالمسلم دون غيره. ولهذه القلة مراجع تاريخية عديدة ربما من بينها أو ربما مرجعها الفقيه ـ الفيلسوف أبو حامد الغزالي، الذي كفّر طائفة واسعة من اليهود والنصارى والدهريين والفلاسفة وغيرهم. 

يُلحق هذا التكفير المستمر حتى اليوم أذى بالمسلمين الذي يتمتعون في حياتهم اليومية بمصنوعات "الكفار"، بل لا يمكن لحياتهم أن تستوي من دون منتجات الكفار الذين يقضي التكفير بعدم الأخذ بعلومهم وإنجازاتهم وعاداتهم وتقاليدهم. ولعل التمتع بمصنوعاتهم من طرف المسلمين مخالف لفتوى التكفير، الأمر الذي يطرح مشكلة لا يبدو أن الفقهاء على عجلة من أمرهم لحلها. أقول هذا الكلام التجريبي من دون تأهيل فقهي وباستخدام القياس العقلي فقط. 

وأتابع الركون إلى هذا القياس لدى المستشرق لويس يونغ في كتابه (العرب وأوروبا)؛ إذ يستنتج أن فتاوى تكفير المسيحيين واليهود والفلاسفة وضعت حدّا للتطور العربي والإسلامي، إذ اعتبرت أن ما يأتي به الكافر هو صناعة كافرة، ومن ثم لا يمكن اعتماده، وعليه صارت علوم الكاثوليك واليهود والفلاسفة والدهريين علوما كافرة، في حين حصرت علوم المسلمين بالفقه والدين. 

بعبارة أخرى يمكن القول: إذا كان الأجنبي أي المكَفر (بفتح الكاف) أعلاه يقول بأن الأرض كروية (عالم الفلك والفيزيائي والفيلسوف غاليليه)، إذن الأرض ليست كروية وإنما مسطحة؛ لأن القائل بكرويتها كافر ويأتي بصنعة كافرة. وقس على ذلك كل تقنيات الأجانب وإنجازاتهم. لذا؛ لم يكن غريبا أن يصر مفتي الحرمين قبل عقود على القول بأن الأرض مسطحة وليست كروية، إلى أن جاء من بعده فقيه آخر تجاوز ما أتى به سلفه.

أرى أن الذين رفضوا الترحم على الإعلامية شيرين أبو عاقلة يستندون إلى هذا النوع من الفتاوى، ولعلهم ينتمون إلى فئتين: الأولى تضم الناس المؤمنين، الذين يعتبرون أن قواعد دينهم لا تجيز الترحم على نصراني ولا تجيز وصفه بالشهيد؛ باعتبار أن الشهادة للمسلم حصرا ومن دون غيره. هؤلاء لا يمكن تحميلهم مسؤولية نص ديني لا جدال فيه بنظرهم، ومن ثم الخروج عليه هو خروج على الدين نفسه.

أما الفئة الثانية، فمن المرجح أن يكون موقفها هذا مشبوها أو متعصبا إن أحسنّا الظن. وفي الحالتين، هذا يصب الماء في طاحونة المحتلين الذين كانوا في أشد الحاجة لهذا السجال من أجل زرع الانقسام بين الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين.

من حسن الحظ ،أن صوت هذه الفئة ما كان عاليا وما كان مسموعا، ولم يصر أصحابه على الذهاب بعيدا في الدفاع عنه كي لا يقتربوا أكثر من المحتلين، لكن رغم ذلك، ترك موقفهم أثرا سلبيا للغاية في مجتمع فلسطيني يحرص أهله على التضامن؛ إذ يعتبرون أن أولويتهم هي خروجهم من نير الاحتلال، ومن ثم فإن الوطنية التي تجمعهم أقوى من فتاوى الإنكار والتكفير.

أعيد التذكير بأنني لست فقيها، ومن ثم لا قيمة دينية قاطعة لرأيي الشخصي في هذا المجال، إلا أن هذا لا يمنعني من طرح أسئلة أو تساؤلات أشترك مع آخرين كثر في طرحها، وأولها يتصل بالقرآن نفسه؛ كتاب المسلمين والفيصل في اختلافهم واتفاقهم ونظرتهم إلى غيرهم. 

لقد لاحظت الباحثة الأردنية إيناس مسلم تكرار اسم المسيح والسيدة مريم أكثر بكثير من ذكر اسم الرسول العربي، وتقول الباحثة؛ إن السيدة مريم العذراء قد ذكرت في كتابنا المقدس أربعا وعشرين مرة، وذكرت وحدها إحدى عشرة مرة، وثلاث عشرة مرة مع ابنها الناصري. وذكر عيسى المسيح 25 مرة، بينما ذكر رسولنا العربي أربع مرات فقط في القرآن الكريم. وتشير الباحثة إلى إحدى الآيات التي تقول؛ إن الله اصطفى مريم على نساء العالمين. فهل يجوز أن يصطفي الله مريم من بين نساء العالمين، وأن يمنع الترحم على الفاضلات المناضلات المخلصات الشريفات المنتميات إلى ملتها؟ 

قد يبدو هذا السؤال ساذجا بنظر الضالعين بالفقه الإسلامي لأنه يستند إلى القياس العقلي فقط، لكنه رغم ذلك جدير بالطرح ويزداد طرحه أهمية عندما نستند إلى مشايخ من الأزهر، أجازوا الرحمة على مناضلة فلسطينية مقاومة للاحتلال الذي عاقبها بالاغتيال، فيما يبتعد قسم كبير من المسلمين يوما فيوما عن فلسطين والأقصى، ويجيز فقهاء ما يسمى بالسلام، أي فقهاء الاحتلال، هذا الابتعاد بمخارج فقهية، مؤداها في نهاية المطاف بقاء الاحتلال حيث هو، وازدياده قوة وانتشارا وتأثيرا وغطرسة. 

السؤال مطروح على فقهاء المقاومة ورفض الخضوع في مجال هو مجالهم الطبيعي ومبرر دراستهم الفقهية. وقد استبق مطالعتهم بالقول؛ إن الإجابة المنطقية على السؤال تفضي إلى جواز الترحم على الإعلامية الشهيدة شيرين أبو عاقلة.

كنت أتمنى أن تصدر مواقف مماثلة من رجال الدين في جامعة الزيتونة في تونس (لعلها صدرت وما علمت بها)، كما أتمنى أن تصدر فتاوى في السياق نفسه من مراجع فقهية أخرى في العالم، لتحسم هذه المسألة وتهمش -من ثم- فقهاء الاحتلال وألسنته المبطنة بالدين.

 

لا نعيش اليوم في ظل خلافة إسلامية، وما عاد لمفهوم الذمية دور في حياة المسلمين، والواضح أن خروجهم من النطاق الذمي ومساواتهم مع المسلمين، ناهيك عن انتظام الطرفين في معركة واحدة ضد مستعمر استيطاني يجابهونه معا حتى الموت، ومن ثم يستحقون معا الرحمة والغفران والجنة في حال الشهادة.

 



إن غياب الإجماع في الفتاوى سواء في قضية أبو عاقلة أو في غيرها، ليس مسألة خطيرة في نظر البعض طالما أن المسلمين ما كانوا يوما موحدين فقهيا، فهم يعتمدون المذاهب الأربعة السنية فضلا عن المذهب الجعفري لدى الشيعة الإثنية عشرية وللزيود فقهاء، وكذلك للإسماعيلية وغيرهم، ومن ثم لا مسطرة فقهية واحدة لدى المسلمين، ولا رأيا فقهيا واحدا في العديد من القضايا المتصلة بما يعرف بالفروع وليس بالأصول أقله لدى السنة. وهذا صحيح إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن تعدد المذاهب الفقهية كان يفضي إلى تعدد في الفتاوى، في ظل دولة الخلافة الإسلامية وبخاصة العباسية، وكان ولي الأمر أي الخليفة يأخذ ما ينبغي ويهمل ما لا ينبغي دون إلغاء. أما اليوم، فلا سلطة مطلقة للمسلمين على شؤون بلدانهم، وهم يخضعون لنظام سياسي دولي له قيمه وأخلاقياته وقواعد سلوك.

وأختم في هذه النقطة مستندا أيضا إلى القياس العقلي. والرأي عندي أن الفقه والإفتاء ما كان جامدا على الطريقة الأرثوذكسية، ولدينا أمثلة كثيرة عن تكيف الفقه مع الظروف التي تستجد ولا نص حولها. وإذ يغيب النص يجوز الاجتهاد، ولا أرى ضيرا في الرجوع إلى مثال صادف الرسول في غزوة خيبر، موجزه أن المسلمين وجدوا في بيوت اليهود جرارا من الخمر المعتق باشروا في تحطيمها، إلا أن صحابيا مسلما يدعى عبدالله رفض تحطيم النبيذ، وشرع يتناول ما طاب له إلى أن كاد يفقد وعيه، وتقول الرواية التي نقلها "الواقدي" في "المغازي"؛ إن الأمر وصل إلى الخليفة عمر بن الخطاب الذي طالب بقطع رأسه في مجلس الرسول، بيد أنه كان للنبي رأي آخر، إذ قال لعمر: لا. عبد الله لا يقتل؛ لأنه يحب الله ورسوله، وكان أن وبخه، وفي رواية أخرى أنه أمر بجلده.

في العهود الإسلامية الأولى، ما كان المسيحيون العرب يقاتلون إلى جانب المسلمين وما كان عليهم أن يقاتلوا؛ لأن المشرع أعطاهم موقع أهل الذمة الذين يدفعون ضريبة تعادل مشاركتهم في القتال. مرة أخرى لا نعيش اليوم في ظل خلافة إسلامية، وما عاد لمفهوم الذمية دورا في حياة المسلمين، والواضح أن خروجهم من النطاق الذمي ومساواتهم مع المسلمين ناهيك عن انتظام الطرفين في معركة واحدة ضد مستعمر استيطاني يجابهونه معا حتى الموت، ومن ثم يستحقون معا الرحمة والغفران والجنة في حال الشهادة. 

هذا التغير الأساسي، ربما يستدعي من طرف المسلمين الاجتهاد في النص كي يتساوى الشهداء في واجب الترحم والاستشهاد، أو على الأقل فصل الفقه عن السياسة في هذه الحالة، واعتبار الشهادة من أجل الوطن عملا بطوليا يتساوى فيه المواطنون، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والسياسية... إلخ، أي كلهم شهداء ما داموا كلهم مواطنين. 

يبقى أن فتوى الغزالي التكفيرية تتناقض مع تجارب المسلمين في العهدين العباسي والأندلسي، وهي التجارب التي غيرت وجه العالم على أكثر من صعيد، وهذا ما سنتطرق إليه في الحلقة المقبلة.