مقالات مختارة

أطلال مصر ازدادت في عهد السيسي

.
عبد الفتّاح السيسي في مأزق: فبعد سنوات من العجرفة، والتصرّف كأنه فرعونٌ جديد، ومخاطبة الشعب المصري كأنه شعبٌ عبيط، مع التبجّح بعظمته الشخصية التي لم يعد يثق بها سوى العباط الحقيقيين، وبعد أن جمع مرة أخرى زعماء العالم في شرم الشيخ ظناً منه أن ذلك يؤكد عظمته، وكانت المناسبة الأخيرة القمة المناخية المنعقدة قبل ثلاثة شهور، ها أن الواقع يفرض نفسه بقوة على الرئيس المصري.

وإنه لواقعٌ مرير جداً، يتجلّى في انحطاط الوضع الاقتصادي المصري إلى حدّ جعل مجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية تعلن متهكّمةً أواخر الشهر الماضي: «بات ممكناً أن يُضاف اقتصاد مصر إلى قائمة الأطلال المذهلة المنتشرة على أراضيها». والحال أن حكم عبد الفتّاح السيسي اضطرّ في نهاية العام المنصرم إلى أن يطرق باب صندوق النقد الدولي مرّة جديدة، متسوّلاً قرضاً هزيلاً تبلغ قيمته ثلاثة مليارات من الدولارات بما يعادل ما منحه الصندوق لتونس بالرغم من أن سكان مصر يكاد يصل تعدادهم إلى عشرة أضعاف تعداد سكان البلد المغربي.

وانعكاساً لحالة مصر الاقتصادية المتردّية، انهار الجنيه انهياراً أعظم بعد ما أصابه بقرار حكومي في خريف عام 2016، إثر القرض السابق الذي حصلت عليه الحكومة المصرية من الصندوق والذي بلغت قيمته الاسمية آنذاك أربعة أضعاف القرض الأخير (أي ما يزيد عن ذلك بالقيمة الفعلية). فقد خسر الجنيه المصري نصف قيمته إزاء العملات الصعبة خلال الأشهر الأخيرة والتخفيضات الحكومية الثلاثة التي تخلّلتها، وخسر بالتالي قسماً كبيراً من قدرته الشرائية داخل مصر التي تستورد قسطاً كبيراً مما تستهلك، لاسيما في المجال الغذائي. والنتيجة أن مستوى معيشة السواد الأعظم من شعب مصر ينهار بالتوازي مع انهيار عملته، بحيث إن نقمة هذا الشعب على السيسي تزداد بحدة. وقد غدا الهوى الذي قام لوهلة بين غالبية الشعب وقائد الانقلاب على محمّد مرسي، غدا ينطبق عليه تماماً ما غنّته أم كلثوم في «الأطلال»: «كان صرحاً من خيالٍ فهوى»!

أما شحّ صندوق النقد الدولي هذه المرّة قياساً بقرض عام 2016، فمردّه أن المؤسسة المالية لم تعد تثق بقدرة حكم السيسي على تحرير الاقتصاد المصري مما يخنقه بالدرجة الأولى في نظرها، ألا وهو هيمنة القوات المسلّحة على اقتصاد البلاد من خلال إمبراطوريتها الاقتصادية الضخمة التي بنتها على دفعات منذ عهد السادات، وقد تسارع بناؤها في عهد مبارك حتى بلغ أوجه في عهد السيسي. فإن الصندوق بمنطقه النيوليبرالي لا يستطيع بالطبع أن يتصوّر سوى الخصخصة حلّاً للمشاكل الاقتصادية، على الرغم من أن عقوداً طوال من تطبيق الوصفات النيوليبرالية ذاتها في المنطقة العربية، شأنها في ذلك شأن معظم مناطق الجنوب العالمي، لم تؤدّ سوى إلى تفاقم الأزمات وتفجير الغضب الشعبي على غرار ما تجلّى في «الربيع العربي». ولا يسع الصندوق بالطبع أن يتخيّل ويشترط رقابة شعبية ديمقراطية على القطاع العام بمجمله، بما فيه القطاع الذي بحوزة القوات المسلحة، على غرار ما صبَت إليه الجماهير المنتفضة في «ثورة 25 يناير».

أما السبب المباشر في أزمة الاقتصاد المصري فهو سوء إدارته التي يتحمّل الصندوق قسطاً من مسؤوليتها بينما يتحمّل حكم السيسي بالطبع القسط الأكبر. والحقيقة أن مسؤولية الصندوق الكبرى تكمن في أنه وفّر غطاءً لسياسة السيسي الاقتصادية، القائمة على مشاريع فرعونية بلا طائل تموّلها الرساميل الأجنبية، لاسيما الخليجية التي ظنّ السيسي أن منّتها لا تنضب. فقد اعتاد حاكم مصر على المعونات الخليجية، السعودية والإماراتية على الأخص، التي أخذت تتدفق على حكمه منذ إطاحته بسلفه المنتمي إلى «الإخوان المسلمين» وقد بلغت ما يُقدّر بمئة مليار من الدولارات خلال العقد المنصرم منذ ذلك الحين.

هذا وقد أخفق حكم السيسي إخفاقاً عظيماً في الاستثمار في مشاريع إنتاجية بما يحسنّ ميزان المدفوعات المصري، فتراكمت ديون الدولة المصرية بالتالي إلى أن بلغت ما يناهز ناتج البلاد المحلّي الإجمالي (قرابة 90 بالمئة منه) تستوعب خدمة هذه الديون، التي تشمل الفوائد المتوجبة عليها، نصف مداخيل الدولة تقريباً. وإذ شعر مموّلو السيسي الخليجيون أن معوناتهم تذهب سدىً حيث تزداد حاجات مصر التمويلية مع الزمن بدل أن تتقلّص، ولمّا لم يعودوا خائفين من «الإخوان المسلمين» بعد أن أصاب الجماعة تراجعٌ حاد منذ الذروة التي بلغتها إثر «الربيع العربي» أخذوا يتلكّؤون في تلبية طلبات حكم السيسي ويتستّرون وراء صندوق النقد الدولي مشترطين فتح أبواب الاقتصاد المصري برمّته، بما فيه القطاع الذي تملكه القوات المسلّحة، أمام رساميلهم. والخطوة الأولى على هذا الدرب إنما هي الكشف عن حسابات القطاع الذي يملكه الجيش كي يدرك المموّلون ما هو مربحٌ فيه بغية تملّكه عند خصخصته، وفق النسق المعهود لخصخصة القطاع العام حيث يستولي المشترون على ما هو مربح بما يُفضي إلى تقليص مداخيل الدولة في المدى المتوسط والبعيد بعد تحسّن مؤقت بسبب البيع.

في المحصّلة، فإن حكم السيسي، بينما يقترب عمره من إكمال عقد، قد فشل فشلاً ذريعاً في إدارة الاقتصاد المصري. وما أفلح سوى في إيصال السيادة المصرية إلى الحضيض كما تجلّى في المشهد المخزي الذي قدّمه الرئيس المصري في دبي يوم الإثنين الماضي، عندما أشاد مرة أخرى بالدعم الخليجي، بعد إلقائه اللوم لما حلّ باقتصاد بلاده على «ثورة يناير» على طريقته المعهودة، مصرّحاً أنه «لولا دعم الأشقاء في الإمارات والسعودية والكويت ما وقفت مصر مرة أخرى». وقد حان الوقت لشعب مصر كي يُظهر للعالم من جديد أنه قادر تماماً أن يقف شامخاً بقواه الذاتية.

(القدس العربي)