قضايا وآراء

السفارة البريطانيّة ببغداد.. ودبلوماسيّة "الأكلات العراقيّة"!

قوات بريطانية في العراق- أ ف ب
يُعتبر التحالف الدوليّ بزعامة الولايات المتّحدة وبشراكة بريطانيّة ضخمة والذي قاد لاحتلال العراق في العام 2003؛ أكبر تحالف عسكريّ بعد الحرب العالميّة الثانية.

وشاركت القوّات البريطانيّة بأكثر من (46) ألف جنديّ لغزو العراق واحتلاله بين آذار/ مارس 2003 وأيّار/ مايو 2009!

وخلال هذه السنوات الستّ وما بعدها، ارتكب جيش الاحتلال البريطانيّ العديد من الجرائم المُميتة والجارِحة والمُذلّة، وقد ظهرت معلومات تُشير إلى انتهاكات بريطانيّة جسيمة وواسعة النطاق بحقّ العراقيّين. وشملت تلك المُمارسات المُمنهجة الاعتداء بالتعذيب الجسديّ والنفسيّ والجنسيّ والفكريّ، وتسبّبت بوفاة العشرات وجرح واعتقال المئات!

وتأكيدا لهذه الحقائق ذكرت تحقيقات لصحيفة "صنداي تايمز" البريطانيّة وبالشراكة مع "بي بي سي" يوم 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أنّ 11 مُحقّقا أكّدوا العثور على أدلة موثوقة تشير إلى ارتكاب القوّات البريطانيّة جرائم حرب، وأنّ الجيش البريطانيّ تستّر على جرائم الحرب تلك!

وكشف مارك وارويك، رئيس لجنة بوزارة الدفاع البريطانيّة للتحقيق في ارتكاب جنود الاحتلال البريطانيّين جرائم في العراق، بداية العام 2016، أنّ "عدد الوقائع أمام اللجنة تضاعف 10 مرات خلال السنوات الخمس الأخيرة، ليتجاوز 1500 واقعة، بالإضافة إلى وجود 280 ادعاءً جنائيا بخصوص العسكريّين البريطانيّين".

وأكّدت المدّعية العامّة في المحكمة الجنائيّة الدوليّة "فاتو بنسودا" في الخامس من كانون الأوّل/ ديسمبر 2017، أنّه وبعد دراسة أوّليّة استمرّت ستّ سنوات، لن يُجري مكتبها تحقيقا رسميّا في جرائم الحرب البريطانيّة في العراق بين عامي 2003 و2008، ولكنّها أكّدت بأنّ "هناك أساسا منطقيّا للاعتقاد بأنّ جنودا بريطانيّين ارتكبوا جرائم حرب في العراق"!

وهذا الموقف المُنافي للعدالة دفع منظّمة "هيومن رايتس ووتش" للقول بأنّ "القرار يُعزّز ما يُعتبر كيلا بمكيالين في العدالة الدوليّة"!

وعلى المستوى الرسميّ، قال وزير الدفاع البريطانيّ بن والاس يوم 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 إنّ التحقيق المستقلّ في أكثر من 1200 شكوى ضدّ عسكريّين بريطانيّين مُتّهمين بارتكاب جرائم حرب في العراق، بين عامي 2003 و2009، انتهى من دون مُلاحقات!

ورغم هذا التاريخ البريطانيّ الطويل والمرهق مع العراقيّين والمليء بالجرائم الدموية والبعيد حتّى عن القيم الإنسانيّة وقوانين العدالة وأخلاقيات الحروب، أطلّ علينا قبل أيّام السفير البريطانيّ الجديد في العراق ستيفن هيتشن بشريط مصوّر غريب وناعم، بعد أن سلّم أوراق اعتماده يوم 18 تمّوز/ يوليو 2023، لوزير الخارجيّة فؤاد حسين!

يبدو أنّنا أمام مهام ثانويّة وليست دبلوماسيّة، بل هي مهام مُقلقة ومُحيّرة ومُتعمّدة، وتتجاهل حقيقة الواقع المرير الذي يفرض على البريطانيّين تصحيح المسار المدمّر الذي ساروا فيه ونفذوا جناياتهم بحقّ العراقيّين!

والسفير هيتشن، الذي يجيد العربيّة، شغل سابقا منصب مدير قسم مكافحة الإرهاب التابع لوزارة الخارجيّة، ومدير الأمن القوميّ للشرق الأوسط بين عامي 2016-2019، ظهر بعد أسبوع من تسليم أوراق اعتماده في شريط مُصوّر عبر حساب منصة إكس (تويتر سابقا) التابع للسفارة البريطانيّة ببغداد (UKinIraq@)، أكّد فيه بأنّه يتمنّى زيارة بعض مدن العراق وأكل السمك المسكوف (المشوي على الحطب) والتسوّق والمشي، وغيرها من الفعّاليات الشخصيّة!

وقد حاول هيتشن خلال التسجيل القفز على الجرائم البشعة المُعْتَرف بها التي ارتكبتها قوات الاحتلال البريطانيّ في العراق، وكأنّه مرحب به بشكل كبير من قبل العراقيّين ويُمثّل دولة علاقاتها مليئة بالحبّ والسلام مع العراق!

وهذا ليس غريبا في العمل الدبلوماسيّ البريطانيّ، حيث سبق لسفير لندن الأسبق ستيفن هيكي أن نشر مقطعا مصوّرا أثناء إعداده طبق "الدولمة" (المحشي) الشهير في العراق، ومقطعا آخر وهو يخبز الخبز العراقيّ!

وأخيرا نشرت السفارة البريطانيّة، الثلاثاء الماضي، مقطعا مصوّرا عبر تويتر، وعلقت عليه: "كادر السفارة اليوم: في دعوة فطور عراقيّ"!

وهكذا يبدو أنّنا أمام مهام ثانويّة وليست دبلوماسيّة، بل هي مهام مُقلقة ومُحيّرة ومُتعمّدة، وتتجاهل حقيقة الواقع المرير الذي يفرض على البريطانيّين تصحيح المسار المدمّر الذي ساروا فيه ونفذوا جناياتهم بحقّ العراقيّين!

المنطق الدبلوماسيّ والعقليّ والتاريخيّ يَفرض على البريطانيّين تقديم اعتذار تاريخيّ للعراقيّين لمساهمتهم في تدمير دولتهم، وكذلك ضرورة مساهمتهم الجادّة لترميم البيت العراقيّ، وتقديم تعويضات ماليّة مُجْزية للأفراد والبلاد نتيجة الجرائم والأضرار الجسديّة والفكريّة والنفسيّة والمادّيّة التي ارتكبتها قوّاتهم المحتلة حينها

وأكاد أجزم بأنّ هذه الأساليب الدبلوماسيّة البريطانيّة المُصطنعة لا تنطلي حتّى على البسطاء، وإلا فإنّ الجهد الدبلوماسيّ ينبغي أن يركّز على إعادة المياه لمجاريها عبر الطرق العمليّة الفاعلة والمؤدّية لجبر خواطر الناس وإعادة الهيبة للعراق، وليس عبر منشورات تتغنّى بالأكلات العراقيّة الشهيرة!

إنّ المنطق الدبلوماسيّ والعقليّ والتاريخيّ يَفرض على البريطانيّين تقديم اعتذار تاريخيّ للعراقيّين لمساهمتهم في تدمير دولتهم، وكذلك ضرورة مساهمتهم الجادّة لترميم البيت العراقيّ، وتقديم تعويضات ماليّة مُجْزية للأفراد والبلاد نتيجة الجرائم والأضرار الجسديّة والفكريّة والنفسيّة والمادّيّة التي ارتكبتها قوّاتهم المحتلة حينها!

وهذه الالتزامات بحاجة لجهود سياسيّة ودبلوماسيّة وقضائيّة وشعبيّة لاستحصالها، وهذه المسؤوليّة التاريخيّة تقع على عاتق الدولة بكافّة أركانها القضائيّة والتشريعيّة والتنفيذيّة، وكذلك على المنظّمات المدنيّة التي يُفْترض بها أن تُطالب بحقوق المواطنين.

وإن نفّذت لندن التزاماتها، فلربّما سيكون السفير البريطانيّ حينها محلّ تقدير وترحيب، وبخلاف ذلك ستبقى النظرة العراقيّة للبريطانيّين على أنّهم مشاركون بقوّة في الخراب العامّ المستمرّ في العراق!

الجرائم لا تُنسى، والحقوق لا تَضيع، والعلاقات لا تُبنى بأعمال بهلوانيّة لا تسعى لمعالجة كُرْبات العراقيّين!

العمل الدبلوماسيّ الرصين يفرض على بريطانيا وغيرها أن تحترم مشاعر العراقيّين المكلومين والمجروحين، وألا تتجاهل تضحياتهم بفعّاليات تزيد التنافر وتغذّي الكراهية والأحقاد ولا تضمد جراحاتهم الثخينة!

twitter.com/dr_jasemj67