قضايا وآراء

تداعيات "طوفان الأقصى" على المشهد التونسي

هل تتجاوز نصرة القضية الفلسطينية الخطابات؟- الأناضول (أرشيفية)
منذ أن توافقت النخب التونسية على إدارة مرحلة التأسيس بمنطق "استمرارية الدولة"، رضيت تلك النخب -بيمينها الإسلامي ويسارها الماركسي والقومي- بإعادة تدوير رموز المنظومة القديمة، بدءا من رئيسي الجمهورية والوزراء. وقد نتج عن خيار "التطبيع" مع المنظومة القديمة ورموزها وخياراتها الكبرى، عودة وجوه التطبيع مع الكيان الصهيوني تحت غطاء "الكفاءة".

وكان من أبرز هؤلاء المطبّعين خميس الجهيناوي، مدير مكتب تونس في تل أبيب خلال حكم المخلوع بن علي. ولعلّ في الصعود الصاروخي لهذا المطبع خلال مرحلتي التأسيس والتوافق (كاتب دولة للخارجية سنة 2011، مستشار الرئيس الباجي مكلف بالديبلوماسية سنة 2015، وزير للخارجية سنة 2016) ما يؤكد غياب أية إرادة سياسية جدّية لتجريم التطبيع، بل إن اختيار الجهيناوي كان خيارا سياديا يعكس حرص السلطة -مستغلة بؤس النخب "الثورجية" وصراعاتهم البينية- على أن تبعث رسائل "طمأنة" للقوى الغربية الراعية للكيان الصهيوني. وهي رسائل مدارها استمرار تونس على نهج المخلوع، رغم كل المزايدات الأيديولوجية والحزبية، ورغم بعض المواقف الرسمية الموجّهة أساسا للاستهلاك المحلي.

لقد أردنا في هذا المقال أن ننطلق من مرحلتي التأسيس والتوافق لنضع المواقف الحالية ضمن سياق تاريخي، فالاكتفاء بالمواقف الآنية سيوقفنا على جزء من الحقيقة ويحجب عنا أجزاء أخرى. ذلك أنّ الأغلب الأعم من الذين يزايدون على رئيس الجمهورية ويطعنون في موقفه المشرّف من المقاومة الفلسطينية، قد كانوا من المكوّنات الفاعلة في المشهد السياسي منذ المجلس التأسيسي، مرورا بالتوافق وانتهاء بانتخابات 2019. وليس ما يطعن في مبدئيتهم عندنا هو عجزهم عن تمرير قانون "تجريم التطبيع"، وعلاقاتهم "الاستراتيجية" مع رُعاة الكيان في الغرب الصهيو- مسيحي بدوله وقيمه الاستعمارية ومنظماته المدنية فقط، بل إن ما يطعن في تلك المبدئية هو أساسا "تطبيع" أغلبهم مع منظومة الاستعمار الداخلي التي لا علاقة لها بـ"القضايا الكبرى"، ولا مشكلة لها مع مسار التطبيع ومع محور الثورات المضادّة؛ باعتباره الراعي الأبرز لصفقة القرن.

لو أردنا أن نشبّه المواقف الرسمية وغير الرسمية التونسية خلال "عشرية الانتقال الديمقراطي الفاشل"، لما وجدنا أفضل من تشبيهها بـ"حركة الاعتماد" لدى النَّظّام المعتزلي، وحركة الاعتماد عنده هي "حركة الجسم في محلّه" (ما يمكن تسميته حديثا بـ"الاهتزاز"). فكل النخب التونسية الرافضة علنا للتطبيع، لم تستطع منع المرحوم الباجي من تعيين خميس الجهيناوي، كما أنها لم تستطع التوافق على قانون تجريم التطبيع، ولا بناء ديمقراطية فعّالة تكون مدخلا لمشروع التحرر الوطني؛ باعتباره الشرط الضروري للمفاصلة عن الغرب ومصالحه المادية والرمزية.

ولا شك عندنا في أن أم مصالح الغرب، لم تكن يوما بناء ديمقراطيات عربية ولا الاحتكام للإرادة الشعبية، ولا حتى حقوق المرأة ولا حرية التفكير والتعبير، بل كانت دائما تأبيد وضعية التبعية وترسيخ هيمنة "منظومة الاستعمار الداخلي" في دول الهامش العربي- الإسلامي ومنها تونس. ولم يكن تطبيع النخب التونسية مع منظومة الاستعمار الداخلي ليسمح لخطاباتها الرافضة للتطبيع بتجاوز "حركة الاعتماد"، فهل استطاع الرئيس التونسي قيس سعيد أن يتجاوز هذه الوضعية، أم إن مواقفه الداعمة للمقاومة لا تتجاوز سقف "الاستهلاك المحلي"، ولا تخرج عن المزايدات السياسية التي لا محصول تحتها؟

من ناحية منطوق الخطاب، فإن ما يميز الجملة السياسية للسيد قيس سعيد هو أنها قد كانت واضحة منذ الحملة الانتخابية الرئاسية من جهة الرفض المبدئي للتطبيع، بل من جهة الدعوة إلى تجريمه باعتباره خيانة عظمى. ولكنّ الرئيس الذي يتمتع بالأولوية في طرح مشاريع القوانين أمام البرلمان، لم يُفعّل هذا الحق منذ وصوله إلى قصر قرطاج، وحتى بعد أن أعلن عن "تصحيح المسار" يوم 25 تموز/ يوليو 2021. كما أن الرئيس لم يتخلص من الميراث المطبّع مع منظومة الاستعمار الداخلي في مراكز القرار الخاصة بالشأن الداخلي أو الشأن الخارجي.

ومهما كانت نوايا الرئيس ومبدئيته في نصرة المقاومة، فإننا لا نرى في فريقه الحكومي أي شخصية "ثورية" (ارتبطت بالنضال ضد المخلوع)، ولا حتى مشهورة برفض التطبيع (فلا يُعرف لرئيس الحكومة ولا لوزير الخارجية أي موقف داعم للقضية الفلسطينية قبل الثورة أو بعدها). أما علاقة الرئيس بمحور "التطبيع العربي" وعرابي صفقة القرن -ومن ورائهم فرنسا-، فهي مما لا يحتاج إلى حجة وبيان. ولكن يبدو أن علاقة الرئيس بهذا المحور تمر بفترة "برود"، أو بأزمة قد تكون عابرة وقد تكون دائمة، مثلما يبدو أيضا أن علاقة الرئيس (ومشروعه) بالمنظومة القديمة (ومشروعها) تشهد تغيرات من جهة موازين القوى، وهو أمر قد يكون تجذير الموقف الرسمي من "الصهيونية العالمية" ومن المقاومة دالا عليه.

سياسيا، يمكن فهم الموقف الرسمي الداعم للمقاومة دون قيد أو شرط (رغم موافقة تونس على البيان الفضيحة لوزراء الخارجية العرب دون احتراز، وإن حرص الرئيس على تقديم هذا الاحتراز بعد "سقوط غرناطة"، أي بعد صدور البيان الختامي)، بما هو تعبير عن اتخاذ مسافة من محور التطبيع، خاصة من الإمارات العربية والسعودية ومصر، بل بما هو تعبير عن تصعيد الخلاف وتجذير الخصومة مع الاتحاد الأوروبي وأمريكا والدول الغربية كافة، التي تداعت لنصرة الكيان الصهيوني؛ وجرّمت حتى مجرد التعبير عن مساندة المقاومة على مواقع التواصل الاجتماعي كما فعلت فرنسا.

فالموقف التونسي بشهادة نقيب الصحفيين الفلسطينيين ناصر أبي بكر هو "الأكثر تقدما ووضوحا من بين كل المواقف العربية"، حتى بالمقارنة مع المواقف المشرّفة للجزائر وقطر وغيرهما من الدول التي لم تُسوّ بين الجلاد والضحية، وتبنت ضمنيا السردية الصهيونية كما فعلت الإمارات والبحرين مثلا. ولا يمكن فهم الموقف التونسي بمنطق البراغماتية كيفما قلّبناه، فالبراغماتية تستدعي موقفا مغايرا، أي موقفا رماديا، أو حتى موقفا مساندا للكيان من طرف خفي.

إذا كان طوفان الأقصى قد غطّى على القضايا المحلية في تونس (مثل قضية المساجين السياسيين وإضراب الجوع الذي يخوضه بعض الأسرى)، فإنه من ناحية أخرى قد أوجد واقعا إعلاميا وسياسيا جديدا؛ فأغلب الذين كانوا يُشيطنون "الإخوان" مشرقا ومغربا، بل يدعون إلى حل حركة النهضة باعتبارها حركة إخوانية "إرهابية"، وأغلب الذين ناصروا الانقلاب العسكري في مصر واعتبروه "ثورة تصحيحية" رغم أنه قد اتهم الإخوان بـ"التخابر مع حركة حماس"، كل هؤلاء قد أصبحوا -بعد الموقف الرئاسي المناصر للمقاومة- جنودا مجنّدة لخدمة القضية الفلسطينية، وإن على استحياء، فهم لا يذكرون في الأغلب حركة حماس ويُذوّبونها في مصطلح "المقاومة" وكأن السلطة الفلسطينية مثلا جزء منها.

أما من الناحية السياسية، فإن الموقف الرئاسي يدل على تقوية موقعه تجاه المنظومة القديمة، المنحازة دائما للغرب وللتطبيع الاقتصادي والثقافي مع الكيان، كما أن الموقف الرسمي المناصر للمقاومة وللحق الفلسطيني، سيكون له انعكاسات مؤكدة على المفاوضات مع الجهات المانحة/ الناهبة، التي تهيمن عليها الدول الغربية والعربية المناصرة للكيان الصهيوني.

ختاما، فإن تحرك جميع الفاعلين الجماعيين في تونس -بمن فيهم رئيس الجمهورية- تحت سقف منظومة الاستعمار الداخلي، لن يسمح للمواقف المناصرة للقضية الفلسطينية وللمقاومة بأن تتجاوز المستوى الخطابي، بصرف النظر عن صدق أصحابها ونواياهم الحسنة. ففي غياب مشروع وطني حقيقي للتحرر من تلك المنظومة -ومن ثم التحرر من رعاتها وحلفائها الأجانب-، لا يمكن لدولة تفتقد لمقومات السيادة بمختلف أبعادها أن تؤثر في مسار الصراع العربي-الصهيوني، ولا يمكنها أن تكون فاعلة في تحديد مآلاته.

وقد يكون على الرئيس التونسي إذا كان يحمل حقا مشروعا لتحرير الوطني، أن يفكر بصورة مختلفة في الشروط الموضوعية والفكرية لنجاح هذا المشروع. فتحرير "الأقصى" لا يمكن أن يمر إلا عبر التحرر من الحلفاء الموضوعيين للصهيونية العالمية، أي من منظومة الاستعمار الداخلي بنواتها المالية- الجهوية وبكل أذرعها السياسية والمدنية والنقابية الإعلامية، التي يزايد أغلب رموزها بنصرة فلسطين، وهم أول الحصون المتقدمة لحماية من يسومها العذاب منذ تأسيس ما يُسمى بـ"إسرائيل".

twitter.com/adel_arabi21