أفكَار

القرآن.. العلم الرئيس في ما بعد الأخلاق.. مفاهيم ومنهج

هدف هذه الورقة شرح ما أراه من المعوقات التي تعاني منها أدبيات الإسلاميات وخاصة حوارات النخبة العربية التي تبدو وكأنها تعيد اكتشاف العجلة.
لم يمثل طوفان الأقصى، زلزالا سياسيا فقط لجهة إسقاط مقولة الجيش الذي لا يقهر لدولة الاحتلال، وإنما أيضا مثل سؤالا فكريا وثقافيا وفلسفيا لا يزال يتردد منذ عصر النهضة العربية الأولى، عن سر النهضة والتقدم..

صحيح أن طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إسرائيلية موغلة في الإبادة والوحشية، هو في ظاهره معركة بين حركات تحرر وطني وشعب يتوق إلى الاستقلال والسيادة، وبين قوة احتلال ترفض الانصياع للقانون الدولي، لكن ما تبعه من اصطفاف دولي غير مسبوق ضد الشعب الفلسطيني هو ما أثار علامات استفهام كبرى، حول مفاهيم الحرية والقانون والسيادة والمساواة والحقوق وغيرها من القيم التي عملت الإنسانية على مدى تاريخها بإسهامات تراكمية في صياغتها..

الفيلسوف والمفكر التونسي الدكتور أبو يعرب المرزوقي يعمل في هذه المقالات التي تنشرها "عربي21" في أيام شهر رمضان المبارك، على تقديم قراءة فلسفية وفكرية وقيمية للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باعتبارهما المرجعية الأساسية التي يبني عليها العرب والمسلمون إسهاماتهم الحضارية..

مدخل

يبدو أن العلاج الفلسفي لمسائل الدين مما لا يطيقه في الغالب أغلب البشر سواء كانوا مؤمنين أو خاصة ملحدين. وفعلا فهو علاج قد يقع فيه خلط بين الفنون عسير القبول. وذلك ما قد يجعل الورقة التي أنوي تلخيصها عرضة للاتهام لأنها مناقضة لما  يسمى بالمناهج الحديثة في الأدبيات العربية حول ما يسمى الإسلامولوجيا (الإسلاميات) (1) عامة وفي الدراسات القرآنية خاصة. فهذه المناهج التي توصف بكونها حديثة والتي تطبق في المسألة الدينية صارت عملة سارية المفعول عند من صاروا مختصين في نقد القرآن خاصة. وقد استمعنا حيننا هذا خلال هذه الندوة  إلى عينات بينة الانتساب إلى هذه الرؤية.

مداخلتي الحالية تلخيص للورقة التي قدمتها في إحدى الحصص التي خصصها قسم العلوم الإسلامية هذه السنة والسنة التي سبقتها للدراسات القرآنية. وكان هدف هذه الورقة شرح ما أراه من المعوقات التي تعاني منها أدبيات الإسلاميات وخاصة حوارات النخبة العربية التي تبدو وكأنها تعيد اكتشاف العجلة. وبالفعل فأمرهم يبدو لي وكأنهم يجترون بعض القشور من أدبيات هي في الغالب من طبيعة هيجلية وماركسية بل وقد تبدو أحيانا عودة لمناكفات الجدل الثيولوجي الذي ساد على العلاقة بين المتكلمين اليهود والنصارى والمسلمين خلال القرون الوسطى.

 فهذه الأدبيات مبدؤها الضمني هو توهم الفكر مجرد انعكاس لما يسمونه الواقع  وقدرة العقل الإنساني أن يعتمده حكما في تعيير دور العقل الذي يتوهمونه محيطا في النظر وتاما في العمل (2). والميل المسيطر على هذه الأدبيات الحداثية تصف الديني بما يشبه "العلاج الإيهامي placebo " الإيديولوجي الساعي إلى السيطرة على البشر ومنعهم من الوعي بمصدر "مسكنتهم" الوجودية والتهدئة المحددة  من والوعي والثورة في الصراع الطبقي وأنه لا يتجاوز حيل رجال الدين في خدمة السياسة.

لا شك أن السياق والتناص موجودان فعلا في النص القرآني ولا أحد ينكر ذلك. لكن وجودها ليس لانتحالها بل هي شواهد وأمثلة يعرضها لنقد ما فيها من تحريف نتج عن سوء التعامل مع المعوقات الاجتماعية والثقافية وحلولها الزائفة بالحلف بين السلطة الروحية والسلطة الزمانية لتوظيف الدين في غير ما أهل له فينتقل من دوره الإصلاحي إلى فرضها مقومات لواقع يقبل على أنه قضاء وقدر.
سأحاول تحليل معوقين تعاني منها هذه الأدبيات أحدهما إيديولوجي (يتعلق بالخيارات في المواقف الوجودية) والثاني ابستمولوجي (يتعلق بالخيارات في نظرية المعرفة). لكني لا أنفي أن الديني يمكن أحيانا أن يحصل فيه الاستعمال الذي يتهم به. وبالذات فالقرآن ينهى عما يشبه بالخيارين اللذين يحرفان الديني فيجعلانها أداة يصدق عليها مثل هذين التهمتين: العلاج الوهمي وخدمة الاستبداد.

وهو ينسب ذلك إلى تحريف الأديان في تشكلها المؤسسي الموظف لها ويصف الأديان حينها بكونها محرفة دون أن يرد إليها الديني من حيث هو ديني. والمعلوم أن كل الأنظمة القيمية تتعرض لمثل هذا التحريف. لكن لا بد من عدم الغلو في الحكم على علاقة المثال بما يتحقق منه وإلا فينبغي أن نتنازل عن حقوق الإنسان مثلا لأن القوى العظمى تغير وجهتها وتبعدها عن غايتها الذاتية  لها فتحرفها لتجعلها  مجرد أداة ضغط لخدمة مصالحها لا غير.

وإذن فما أعالجه في ورقتي يمكن أن يصاغ في شكل خيار بين فرضيتي تأويل تحددان طبيعة نص القرآن:

1 ـ الفرضية الأولى تضع أن القرآن ليس إلا خليطا ملفقا (رابسودي rhapsodie ). وتلك هي الفرضية التي يقول بها إسلامولوجيونا في الأغلب مع إغفال قصدي لتعريف طبيعة النص القرآني مدعين فهما محيطا به ومؤكدين بأنه بوسعهم تفسير جوهر رسالته التي هي مجرد مشروع أيديولوجي باستعمال أدنى المناهج التي ترد معقد المسائل الدينية إلى التبسيط المخل في تقديم حلول لها يتصرونها علمية وكافية لإثبات العقلانية التي يدعونها.

فما يتبنونه من أطروحة تؤكد موقفا من القرآن يؤكدون فيه  أن نصه يحدده السياق الاجتماعي الثقافي المعاصر لتكونه. لذلك فهم يردونه إلى صوغ تلفيقي قابل للتأويل بالقياس إلى لثقافة عصره والشروط الاجتماعية التاريخية لتأليفه. وحجتهم الرئيسية تستند إلى فرضية الانتحال ودليل التناص الذي من اليسير التأكد منه بما فيه من "العارية" القرآنية التي تبدو بينة بما فيه من منتخبات نصية مستمدة من النصوص الدينية السابقة عليه والتي تعالج نفس المشاكل.

2 ـ لكني أقترح فرضية ثانية مناقضة لهذه الفرضية الأولى التي اعدها شديدة السذاجة رغم أني لا أنفي وجود ما يبدو عارية أي استعارة القرآن معاني ومفهومات تبدو انتحالا وتناصا لكن فهم طبيعتها تبين أن لها وظيفة يتجاهلونها هي وظيفتها في القرآن تبين أن حضورها فيها دليل  على أنه عمل متفرد الجنس يقدم تأويلا نسقيا للعلاقة التي تصل بين مصالح الروح وتاريخ العقبات التي تحول دون الإنسان وتحقيقها وهي معوقات كونية تعلل ما يطرأ على الأديان من تحريف هو علة حضورها فيها موضوعا لنقد التحريف.

ومن البين نفسه أن هذه العلاقة بمقتضى حدها لا يمكن بيانها والتمثيل لها من دون معطيات اجتماعية ثقافية وتناص كما يقتضي كل علاج نسقي يهدف لتأويلها وتشخيص عللها حتى يقدم لها علاجا يحرر الديني منها. والقرآن بمقتضى تعريف طبيعته هذا التعريف أي بوصفه يحلل نسقيا هذه العلاقة لا يمكن أن يكون خاضعا لسياقه الاجتماعي الثقافي ناهيك عن أن يكون قابلا للفهم بغير نسقه الذاتي بصرف النظر عن السياق والتناص اللذين هما موضوع تحقيقه وليسا محددي رسالته. وهذه هي قاعدة كل عمل يقوم به الفكر النسقي سواء كان فلسفيا أو دينيا علميا أو جماليا. وتلك هي علة الشواهد القرآنية التي ظنها الاسلامولوجيون مستعارات من الأديان السابقة انتحالا مهملين تعريف منزلتها في النص القرآن  منزلتها التي يعرفها بمطلق الدق.

ولا شك أن السياق والتناص موجودان فعلا في النص القرآني ولا أحد ينكر ذلك. لكن وجودها ليس لانتحالها بل هي شواهد وأمثلة يعرضها لنقد ما فيها من تحريف نتج عن سوء التعامل مع المعوقات الاجتماعية والثقافية وحلولها الزائفة بالحلف بين السلطة الروحية والسلطة الزمانية لتوظيف الدين في غير ما أهل له فينتقل من دوره الإصلاحي إلى فرضها مقومات لواقع يقبل على أنه قضاء وقدر. وبذلك فهذه الشواهد ينبغي أن تؤول في علاقة بالنسق الذي أنوي صوغ خضوطه العريضة في هذه الورقة حتى ندرك جوهر رسالته. 

وأنوي في ما يأتي من قول بيان هذه الصيغة الأولية بالجواب عن الأسئلة التالية:

1 هل الفرضية الأولى حديثة حقا؟
2  وما مسلمتها الإيديولوجية إذا كان لها هذه المسلمة؟
3  وما مسلمتها الإبستمولوجية إذا كان لها هذه المسلمة؟
4 وما بعد النص القرآني الذي تنطبق عليه الفرضية الأولى
5 وأخيرا هل القرآن كما أدعي يمثل عملا فريد الجنس كما أدعي في الفرضية الثانية؟

هوامش الترجمة:

(1) عنوان المداخلة بالفرنسية هو:Le Coran Architectonique Méta-éthique

(2) إن مفردتي واقعي ووقاع تمثلان شبه شعار شديد التردد في هذه الأدبيات الاسلامولوجية ما يغنينا عن الإشارة إلى الأسماء الذين يسمون اسلامولوجيا الاسلاموفوبيا المتنكرة إما تقية أو جبنا أو خاصة جهلا بأن العلم المحيط والعمل التام مستحيلان ومن ثم فادعاء الاحتكام للواقع وزعم معرفته الممكنة من ذلك تثبت وهاء كل مسلماتهم.