كتب

تحولات ومراجعات المدرسة التبليغية المغربية.. قصة مرشد الجماعة في كتاب (2من2)

خرج الشيخ البشير إلى الهند وباكستان، وكانت مدد خروجه تتراوح بين سبعة أشهر أو ثمانية، أو أربعة أشهر أو ستة..
الكتاب: البشير اليونسي شيخ رسالة ورجل مبدأ
الكاتب: د. مصطفى الجباري
الطبعة الأولى
سنة النشر: 2024
مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء
عدد  الصفحات: 538

إعلان الاستقالة من التعليم ورحلة الحرية


لم يجد الشيخ البشير ضالته في التعليم، مع أنه قام بدور رسالي متميز، ونقل مادة التربية الإسلامية إلى مادة دعوية رسالية تخرج منها عدد من التلاميذ النجباء، ويكفي أن من هؤلاء الدكتور أحمد الريسوني الذي درس عند الشيخ، وأقر بأسلوبه الرسالي في التدريس، وذكر طريقته في استنهاض الهمم الإيمانية، وحفزه الشباب على التدين والانخراط في الدعوة إلى الله.

فضلت سيرة الرجل ألا تذكر الوقائع العينية التي جعلته يتذمر من التعليم، وحاولت أن تكتب ذلك بأسلوب ناعم، يظهر قدرا من الضيق بالقيم  الغربية التي كان يراد فرضها على المتعلمين، وإن كان الحدث الأساسي الذي أفاض الكأس هي حجم المضايقة التي كان يلقاها البشير في التدريس، ودرجة الاعتراض على النموذج القيمي الذي كان يقدمه، لاسيما ما يتعلق بتقديم قيم الإسلام، فكان بعض  الأساتذة، خاصة  أساتذة اللغة الفرنسية، يشتكون للإدارة، ويحذرونها من خطورة نموذج التدريس الذي يقدمه البشير، الذي يستهدف ما يسمونه بقيم الانفتاح والعصرنة، فلم يتحمل البشير وقوف الإدارة  إلى جانب هؤلاء فقدم استقالته، وفضل أن يشتغل في مهن جد متواضعة، من أجل أن يحصل لقمة العيش، ويتفرغ إلى الدعوة والخطابة بالمسجد.

فكانت البداية بالعمل بمصنع الزليج بالعرائش، وقد تلقى الناس بمدينة القصر الكبير الخبر بذهول شديد، ويحكى أن رب المصنع، لما جاء وقت أداء أجر العمال، أضاف زيادة لأجر البشير، تعاطفا معه بسبب مغادرته للتعليم، فرفض البشير ذلك، واشترط عليه أن يأخذ مثل ما يأخذ جميع العمال. وقد تدرج به العمل من مجرد مساعد إلى صانع بارع، ولم يكتف بهذه المهنة، بل أضاف إليها مهنة صناعة الطرابيش الصوفية، وتقلب في مهن متواضعة كثيرة، فأتقن مهنة الخياطة وصناعة المحافظ الجلدية، وتسفير المجدات بالجلد، إلى أن استقر به الأمر على إعداد الحلويات بعد أن طلب منه صديقه الشيخ وديع العمل معه في مخبزته، فاشتغل معه شهرين ليتعلم الصنعة في مدينة مكناس، ثم عاد إلى مدينته القصر الكبير، فقرر افتتاح مخبزته قبالة المعهد الأصيل، فاشتد الإقبال على حلوياته، فكان البشير اليونسي هو مؤسس هذه التجارة بالمدينة.

ولم يكن يشغله كل ذلك عن مهمته الأصلية والكبرى، أي الدعوة إلى الله تعالى، ولم يكن فقط مسؤولا عن زوجته وأبنائه، بل حتى على أخته وأبنائها السبعة، فقد كانوا جميعا تحت ذمته، يعولهم ويتولى شؤونهم، وكان شرطه الوحيد الذي اشترطه على رب العمل في معمل الزليج، هو أن يعفيه من العمل كلما توفرت له نفقة الخروج في سبيل الله.

خرج الشيخ البشير إلى الهند وباكستان، وكانت مدد خروجه تتراوح بين سبعة أشهر أو ثمانية، أو أربعة أشهر أو ستة، ولكن ظروف العيش بهذين البلدين شاقة لا يقدر عليها إلا الصابرون، ناهيك عن قسوة المناخ وتقلباته مع تفشي العدوى بالحمى والملاريا، وكان رحمه الله عند رجوعه من السفر يعود إلى عمله في مصنع الزليج، ويحرص على أداء التزاماته الدعوية بشكل منتظم.

مراجعات المدرسة التبليغية المغربية

يقدم هذا الكتاب معطيات مهمة عن النسخة المغربية لجماعة التبليغ، تلك النسخة التي صنعها البشير بنفسه، محاولا أن يخلق التواؤم بين ما تلقاه عن مدرسة التبليغ بأصليها البارزين بالهند وباكستان، وخصوصية الواقع المغربي، والتشكيلة الذهنية والعلمية والفكرية التي نشأ عليها الشيخ البشير.

يتضمن هذا الشق معطيات مهمة عن المراجعات الأولى التي حصلت في مسار الرجل، من توديع خطاب المواجهة والصدام مع السلطة إلى خطاب الحكمة والصمت أو الحكمة ولغة الإشارة الدالة، ويقر الشيخ رحمه الله بوقوعه في بداية مساره في أخطاء أضرت بالدعوة، لكنه في المقابل، تحدث عن الرؤية التي تشكلت له زمن النضج الدعوي، والتصنيف الذي كان يتبناه إزاء رجال الدعوة، فرجال الدعوة حسب رؤية الشيخ النقدية على ثلاثة أصناف، صنف يركبه الحماس العاطفي، وهو لا يمتلك قوة التأصيل العلمي والزاد الشرعي فضلا عن الجهل بالسنن الكونية، وصنف فضل المصالحة مع الواقع المريض، فهرب من الابتلاء إلى الاحتواء، وتملص من مسؤولية الإصلاح، وتحول بعدها إلى الانحراف بسلوكه نهج التبرير، وصنف يريد الإصلاح لكنه انحرف عن طريقه الصحيح، مع توفر النية والمقصد السليم. ولذلك، وضع شروطا أساسية لترشيد فقه الدعوة، ملخصا غياها في العلم بالسنن الربانية، وتدبر القرآن ومدارسة السيرة، والإيمان بالغيب وصدق التوكل على الله، والثبات على المبدأ ورفض المساومة على الحق، والصبر على المحن والابتلاءات، والتربية على الأخلاق والمحبة، ومزج القيادة بالحكمة، وتحريك سننية الأسباب وتفويض النتائج لرب الأسباب، والاشتغال بالقضايا الكبرى والإعذار في الجزئيات، إلى أن يأتي وقتها أو تختفي من تلقاء نفسها.

لم يجد الشيخ البشير ضالته في التعليم، مع أنه قام بدور رسالي متميز، ونقل مادة التربية الإسلامية إلى مادة دعوية رسالية تخرج منها عدد من التلاميذ النجباء، ويكفي أن من هؤلاء الدكتور أحمد الريسوني الذي درس عند الشيخ، وأقر بأسلوبه الرسالي في التدريس، وذكر طريقته في استنهاض الهمم الإيمانية، وحفزه الشباب على التدين والانخراط في الدعوة إلى الله.
ويحكي الكتاب جوانب مهمة من مراجعات المدرسة التبليغية زمن الشيخ البشير اليونسي، من ذلك حسمها في قضية الزي الإسلامي، وأنه مجرد لباس قومي، وأنه لا يجمل بتنظيم دعوي أن يلزم الناس بلباس أقوام آخرين في بيئات أخرى مغايرة للبيئة المغربية، فأصر الشيخ رحمه الله أن يضفي على الزي المغربي طابعا خاصا، وأن يحمل رجال التبليغ في المغرب على الالتزام بلباس بلدهم، وذلك من خلال الحكمة والدعوة الرفيقة الرحيمة، فلم يلبس رحمه الله إلا لباسا مغربيا أصيلا، كما تبين ذلك الصور التي التقطت له قديما وحديثا.

ومن مراجعاته رحمة الله عليه، إصراره على مزج الدعوة بالتعليم، فحرص إلى جانب بناء مقرات الجماعة في عدد من مدن المملكة على بناء مدارس قرآنية، تضطلع بمهمة تدريس الأطفال القرآن وما يدور حوله من علوم شرعية، وكان رحمه الله يصر أن تكون البنات مشمولات بالتدريس في هذه المدارس بشكل يؤمن فيه من اختلاط الجنسين.

ومن مراجعاته رحمه الله، تحوله من نبذ فكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي بدعوى البدعة، إلى تشجيع الاحتفال بهذه الذكرى، وذلك من خلال إحياء دروس السيرة، وذلك منذ بداية شهر ربيع الأول إلى اليوم الثاني عشر منه، وقد تدرج في تغيير فكرته حتى لا يصدم جمهوره الذين أنسوا منه رفض الاحتفال بذكرى المولد النبوي في دروسه وخطبه السابقة، واعتبر في مراجعاته أن هذه المناسبة تقدم فرصة للتعرف على سيرة رسول الله وتعليمها للناس وتحبيبهم شخص الرسول وسيرته وهديه عليه السلام.

على أن المراجعة الكبرى التي سجلت في فكر الرجل ورؤيته، أنه كان لا يتعامل مع جماعة التبليغ في أصلها النموذج المقتدي في كل التفاصيل، بل كان يصر على أن القضية المركزية التي تجمعه بجماعة التبليغ هي الدعوة إلى الله، وأن ما سواها يعد تفاصيل يمكن الاجتهاد فيها، والتأقلم فيها مع خصوصيات الواقع المغربي، ولذلك فقد شارك رحمه الله في فعاليات الجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية، التي دعت إليها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في بداية التسعينيات، وجمعت رموز الحركة الإسلامية بالمغرب والخارج، وهو ما يعد في أدبيات جماعة التبليغ سياسيات وخلافيات ينصح بتركها مطلقا.

جهود الرجل في الدعوة واستقطاب المواهب والكفاءات

تضمن الكتاب معطيات أخرى مهمة، تخص علاقة الرجل ببقية الطيف الديني، ومحنته مع السلطة، واعتقاله السري من قبل جهاز أمن الدولة، بقصد التحقيق معه ومع أنصاره لتكوين رؤية عن مكونات الطيف الحركي بالمغرب، كما ذكر جوانب من علاقاته مع العلماء ودخوله في مناظرة معهم بشأن نهج رجال الدعوة والتبليغ، لاسيما فكرة الخروج في سبيل الله، وكيف توترت الأجواء وحصل اجتماع العلماء في المسجد الأعظم ضد الجماعة، فقام الشيخ البشير اليونسي باحتواء المعارضة، وقدم الكتاب أيضا جوانب مهمة من جهوده في بناء المساجد وإعمارها، ورحلاته لزيارة العلماء، وتلامذته وخصائص الجيل الذي تربى على يديه،  وكيف استطاع رحمه  الله أن يستقطب الدعاة والعلماء والفنانين، فضلا عن  مواقف متعددة في خروجه في مدن المغرب وقراه، وصبره على أمراضه وعلله، إلى أن أخذه الله إليه.

اقرأ أيضا: تحولات ومراجعات المدرسة التبليغية المغربية.. قصة مرشد الجماعة في كتاب (1من2)