أفكَار

الحروب الصليبية.. التحالف السني الشيعي والوعي بمخاطر التأجيج الطائفي (1 من 2)

الشيعة، لم يجنوا من وراء مقاومة الصليبيين سوى انحسار مذهبهم واضمحلال دولتهم، وأن التحاقهم بالسنة بشكل متأخر لمواجهة الصليبيين، وإبعاد التهديد الوجودي عنهم بعد أن سقط بيت المقدس وأخرج من نفوذهم، لم يشفع لهم، ولم يمكنهم من تجديد شرعيتهم أمام الأمة..
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 من تشرين أول (أكتوبر) من العام 2023، عاد الحديث مجددا عن المحاور الدولية مع الاصطفاف الغربي غير المسبوق إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي في حربه ضد الشعب الفلسطيني..

وبرزت إيران كواحدة من أهم الأطراف المؤثرة في المشهد بالنظر إلى تبادل الضربات العسكرية بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي، الذي عمد إلى اغتبيال عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا. وكان الاستهداف الإسرائيلي الأخير لقنصلية طهران في دمشق نقطة فاصلة في هذه العلاقة، حيث أعلنت طهران أنها لن تصمت على هذا العدوان، وأنها سترد، وقد كان لها ذلك حين أمطرت إسرائيل بعشرات الصواريخ والطائرات بدون طيار من إيران إلى الأراضي اتلمحتلة مباشرة..

وقد أعاد هذا الاحتقان الذي ميز العلاقات الإيرانية ـ الإسرائيلية على مدى العقود الماضية، وكذا اشتداد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، امكانية وحدة الصف السني ـ الشيعي في مواجهة هذا العدوان، الذي زاده الدعم الأمريكي والغربي وحشية، على نحو ما كان أيام الحروب الصليبية حين توحد الشيعة والسنة في مواجهة الصليبيين في عدد من المواقع..

وقد أثار الأستاذ الجامعي الموريتاني الكاتب محمد مختار الشنقيطي ذلك من خلال عدد من تغريداته على صفحته على منصة "إكس"، مستذكرا كتابه "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية"، داعيا إلى توحيد الصفوف ليس في نصرة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وإنما في الانحياز إلى الصف العربي والإسلامي في مواجهة حرب صلايبية جديدة بقيادة إسرائيل ودعم الدول الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.

وأعاد الدكتور الشنقيطي نشر قراءة سابقة للكاتب والباحث السوري الدكتور عرابي عبد الحي عرابي عن كتابه المذكور، وهو ما أثار جدلا فكريا بين النخب العربية والإسلامية، ليس فقط عن العلاقات السنية ـ الشيعية، ولا الإيرانية ـ العربية، وإنما عن دور إيران في إضعاف العرب وتمكين عدوهم منهم.

"عربي21"، تفتح نقاشا فكريا عميقا حول كتاب الدكتور الشنقيطي أولا، وما إذا كان من الوارد أن يتم تحالف سني ـ شيعي في مواجهة العدوان الإسرائيلي والغربي على فلسطين والعرب والمسلمين..

وبعد أن نشرنا رأي الدكتور عرابي عبد الحي عرابي، ثم رأي الدكتور أحمد القاسمي الأستاذ الجامعي التونسي، ننشر اليوم رأي الدكتور بلال التليدي الباحث المغربي في شؤون الفكر الإسلامي..


ترميم الذاكرة التاريخية

سبق لي أن قرأت أطروحة الدكتور المختار الشنقيطي بعد أن ترجمها إلى اللغة العربية ونشرها سنة 2016 في الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ووقتها اعتبرت أن ترجمة هذا العمل الهام، الذي استحق عليه المؤلف درجة الدكتوراه من جامعة "تكساس تك" بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 2011، يعتبر إضافة نوعية في حقلين من حقول الدراسات الاجتماعية (التاريخ، وعلم السياسة).

ومع أن قصد الأطروحة الأول، اتجه إلى محاولة ترميم الذاكرة التاريخية، أو بالأحرى التأسيس لتاريخ جديد وذاكرة جديدة، تطوي صفحة  ماضي الصراع والقطيعة بين السنة والشيعة، خاصة في لحظات الاستهداف الغربي (الصليبي بالأمس، والصهيوني الأمريكي اليوم)، فإن الأهم في هذا العمل، في تقديري، هو محاولة التأسيس للحاضر من خلال العودة  إلى الماضي، والانطلاق من  فترة زمنية محدودة في الامتداد (القرنين السادس والسابع الهجري)، أي فترة الحملات الصليبية التي اجتاحت العالم العربي، للتأسيس للتواصل بين السنة والشيعة، ومحاولة بحث إمكان التحالف بين الطرفين، على الأقل، في مواجهة التهديد الوجودي الذي يمثله الكيان الإسرائيلي والحليف الأمريكي الأوربي، تماما كما كان بالأمس يمثله الصليبيون في الحقبة المذكورة.

في الواقع، مع الإقرار بصعوبة البحث التاريخي، وتداخل المذهبي والطائفي بالحقيقة التاريخية في عمل المؤرخ وفي الوثيقة التاريخية نفسها، فإن التأسيس للذاكرة المتواصلة، يعتبر أصعب بكثير من المحاولة البحثية، التي قام بها محمد بن المختار الشنقيطي وغيره من الباحثين، الذين ركزوا على موقف الشيعة من الحروب الصليبية.

من المفيد أن أؤكد أن عددا من الباحثين المشهود لهم بالجدية البحثية، وأيضا بالصرامة المنهجية في التعامل مع الحقيقة التاريخية، استطاعوا إلى حد كبير أن يتخلصوا من إرث الصراع المذهبي، وأن يتجردوا من نزعاتهم الطائفية، ويقرروا في خلاصاتهم المتنوعة حقيقة مشتركة تتعلق بعدم وجود ما يثبت حصول تواطؤ بين الشيعة وبين الصليبيين في مواجهة السنة أو في محاولة تقليص نفوذهم، وحتى في حالة الفاطميين في مصر أو الإمامية في طرابلس (ابن عمار)، فإن أقصى ما أثبته الدارسون خاصة للموقف الفاطمي من الغزو الصليبي، هو  تقدير سياسي تبناه الفاطميون، سرعان ما تبين لهم خطأه بعد أن سقط بيت المقدس بيد الصليبيين، واقترب الخطر الصليبي أكثر من منطقة نفوذهم وعاصمتهم (مصر)، وأن ذلك دفعهم إلى إعادة قراءة الموقف من جديد، والسعي نحو  الدخول في جبهة مع السنة لقتال الصليبيين.

فالدكتور أسامة زكي زيد في كتابه: "الصليبيون وإسماعيلية الشام في عصر الحروب الصليبية"، أثبت هذه الحقيقة، وذلك بعد تحقيق علمي استوفى فيه كثيرا من الجهد والمقابلة وتحرى فيه استقراء المصادر الأجنبية. وإذا كان أغلب المؤرخين العرب وفي مقدمتهم ابن الأثير وابن ترغي، قد استنكروا تقاعس الفاطميين في الجهاد ضد الصليبيين، وتفكيرهم في مصالحهم بمعزل عن التبصر بمقاصد الافرنجة السياسية والعسكرية، فإن أحدا منهم لم ينكر حقيقة قيامهم بثلاث حملات عسكرية ضد الصليبيين لاستعادة بيت المقدس، ولجوؤهم في الأخير، بعد أن تلقوا هزائم متتالية، إلى طلب سند السنة، من السلاجقة الأتراك، وانهم دفعوا ثمنا كبيرا مقابل ذلك، إذ خسروا نفوذهم في الشام، وانهارت دولتهم في مصر بعد ذلك.

أطروحة الشنقيطي.. المقاصد والحقائق التاريخية:

مع أن موضوع الأطروحة هو التنقيب التاريخي في جزئية تتعلق بأثر الحملات الصليبية على العلاقات بين السنة والشيعة، فإن صاحبها لم يخف قصده السياسي والحضاري من الاشتغال العلمي على هذه الجزئية، فالاشتغال على الذاكرة التاريخية بقصد بناء المستقبل، أي التأسيس للوحدة أو التحالف بين السنة والشيعة، تقف دونه إشكالات كثيرة، جزء منها يسكن في التاريخ، وتمتد تداعياته الثقافية والدينية والمذهبية والسياسية إلى الحاضر. والجزء الآخر، يسكن في واقع السياسة اليوم، وطبيعة العلاقات القائمة بين إيران (باعتبارها الدولة الشيعية الأم الراعية) والدول السنية، والشكل الذي تتعاطى به مع القضية الفلسطينية، وبشكل خاص مع المقاومة الفلسطينية في مقاومتها الاحتلال الصهيوني.

يقرر الشنقيطي في أطروحته أن السمة العامة التي طبعت العلاقة بين السنة والشيعة على مدار التاريخ هي التواصل لا القطيعة، والتعايش لا الصراع، ويستثني من ذلك أربع محطات أساسية، ثلاثة منها تنتمي إلى التاريخ "الوسيط":( الصراع بين المالكية والإسماعيلية في الحكم الفاطمي لتونس الذي دام بضعة عقود، الصراعات الحنبلية الشيعية في زمن الحكم البويهي ببغداد الذي دام مائة وخمسة أعوام، وصراع النفوذ بينم العثمانيين والصفويين على العراق وشمال الشام وشرق الأناضول) والمحطة الرابعة تنتمي إلى التاريخ المعاصر(الحرب الإيرانية العراقية 1980ـ 1988)، ويؤكد أن أسباب القطيعة لا تعود إلى اعتبارات عقدية أو مذهبية، وإنما ترجع إلى أسباب سياسية وعرقية، وأن الدين والمذهب والمعتقد هي مجرد أدوات استعملت لتذكية هذه الصراع وتبريره.

اشتغل الشنقيطي على أربعة أسئلة محورية، يهمنا منها الثلاثة الأولى، أي بحث أسباب تمدد التسنن وانحسار التشيع خلال المرحلة الصليبية (القرن السادس والسابع الهجري)، واختبار مدى تأثير هذه الحروب في ذلك؟ ودراسة أثر هذه الحملات الصليبية في تكييف العلاقات السنية الشيعية (تطور العلاقة)؟ فهذه الأسئلة هي التي تتعلق بالتأسيس التاريخي الذي يرفع رهان وحدة الجبهة النضالية بين الشيعة والسنة اليوم لمواجهة الاحتلال الصهيوني المدعوم أمريكيا وأوربيا، أما سؤال تأثير تلك الأحداث (شكل تعاطي الشيعة مع الحروب الصليبية) على الحجاج الطائفي بين السنة والشيعة اليوم؟ فالجزء الأكبر من النخب السنية اليوم تدعم فكرة تواطؤ الشيعة مع الصليبيين ضد السنة، وتعيد إنتاج أطروحة أطروحة التحالف الإيراني الأمريكي على حساب القضية الفلسطينية، باستثناء نزر يسير من التعابير السياسية التي لا تزال تبحث في التاريخ عن وقائع أخرى لترميم الذاكرة والاستثمار في بناء "مستقبل جديد".

وبغض النظر عن الوقائع والأحداث الكثيفة، وعن التشعبات التي تخترق الخارطة الشيعية، سواء منها المذهبية، أو حتى الجغرافية، والتحولات التي طبعت مواقفهم، فإن الخلاصة التي انتهت إليها أطروحة الشنقيطي، تبقى مفتوحة على أكثر من رهان مستقبلي، فإذا كان التأثير الأساسي للحروب الصليبية على الشيعة دعم فكرة انحسار التشيع وضعف نفوذهم في كل من الشام ومصر خلال القرن السادس والسابع الهجري، وسقوط دولتهم في مصر، وانتقال مركز ثقل التشيع من بلاد العرب إلى بلاد فارس، فإن العبرة التاريخية المرتبطة ببناء المستقبل تحتمل قراءتين: القراءة التي ترى أن مقاومة الشيعة للصليبيين بشكل مبدئي من أول يوم، وعدم التعويل على الإفادة من حروبهم لكسب مواقع على حساب (السنة) أو بقصد إضعافهم سياسيا، سينتج عنها تمدد التشيع واكتساب الدولة الراعية له قوة وشرعية.

وقراءة مقابلة، ترى أن الشيعة، لم يجنوا من وراء مقاومة الصليبيين سوى انحسار مذهبهم واضمحلال دولتهم، وأن التحاقهم بالسنة بشكل متأخر لمواجهة الصليبيين، وإبعاد التهديد الوجودي عنهم بعد أن سقط بيت المقدس وأخرج من نفوذهم، لم يشفع لهم، ولم يمكنهم من تجديد شرعيتهم أمام الأمة، ومن تقوية سلطتهم ونفوذهم كدولة في مصر وأن الذي كسب في النهاية هم السنة من خلال الدولة السلجوقية (التركية).

في الواقع ليس للباحث أي ضمانة للحكم على التاريخ في حال تغير بوصلته، "فلو" الافتراضية لا تصلح أن تعمل في وقائع التاريخ، فما جرى هو الذي حصل، ولا يمكن افتراض سيناريو آخر، لاختبار هل كانت النتائج ستسير على نفس النسق أم كانت ستصير إلى أحوال أخرى، لكن مع ذلك، ينبغي أن نطرح السؤال المتعلق بالتركيبة السوسيولوجية، وبنية الدولة، وشرعيتها، ووزنها في المسرح الدولي، لا السؤال المتعلق بالموقف من الحرب الصليبية، فالذين يرون أن مستقبل الفاطميين كان سيسير في اتجاه آخر لو اتجهوا من أول يوم، وبشكل مبدئي إلى حرب الصليبيين إلى جانب إخوانهم السنة، لا يمكن أن يقدموا أي حجة، تربط الانحسار والتمدد في المذهب بالموقف أي بالمقاومة، في حين، نظريا، ليس ثمة حجة تدعم  إمكان تمدد الدولة الفاطمية أو تمدد مذهبها الإسماعيلي، في حالة اختيارها منذ أول يوم الوقوف إلى جانب السنة في مقاومة الحملات الصليبية. فقياس التمدد والانحسار في الواقع يرتبط بأمة يتجاذبها مذهبان هما السنة والشيعة، وهما في الحالة هذه كلاهما مقاومان، فعلى حساب من سيكون التمدد؟ وعلى حساب من سيكون الانحسار؟

ولذلك، نرجح أن يكون وراء سقوط الدولة الفاطمية، وانحسار التشيع في القرنين السادس والسابع الهجري، عوامل أخرى، تتدخل فيها بنية الدولة، والجغرافية التي تحكمها، والتركيبة السكانية والمذهبية للجماعة التي تحكمها، والإطار الإقليمي الذي يحكمها، وموازين القوى وطبيعة العلاقة التي تربطها بخصمها (السنة) في مختلف تشكيلاته وتحيزاته الجغرافية، وأيضا بالفاعل الأجنبي  والتهديد الجغرافي الذي يشكله وطريقة الاشتباك معه وكلفة ذلك، وأن قضية سوء تقدير الموقف من الحملات الصليبية، لم يكن إلا عاملا محدودا ضمن هذه العوامل المتشعبة.