مقالات مختارة

أعطاب الليبرالية العربية الحالية

1300x600
أفرزت كل مرحلة عربية ليبرالييها منذ أواخر القرن التاسع عشر وإلى اليوم. لا يعني هذا أنّ تاريخ الليبراليين العرب هو -حكماً- متصل بعضه ببعض ويتبع مساراً تراكمياً تفاعلياً بين أجياله. ليست النية هنا الرفع من شأن أسلاف الليبرالية العربية كأحمد لطفي السيد وطه حسين للحطّ -من ثم- من شأن الأجيال اللاحقة من الليبراليين. بعض مشكلات الليبراليين الحاليين تجدها فــــي جيــــل الرواد أيضاً.

الإجهاد من أجل نيل صفة «فرد» كما لو أنّ الفــــرد لم يكن معـــطى، السلبية تجاه التاريخ العثماني، المساواة التامة بين التحديث والتغريب، الحطّ من شأن الريف والثقافات الفلاحية والبدوية، التعامل مع الـــثورة الفرنســـية كما لو كانت مبادئ عامة لا يهمّ بعدهــــا الأحداث – على جسامتها، التعامل مع الديموقراطية البريطانية كما لو كانت الامبراطورية الاستعمارية البريطانية قشرة عارضة، وأحياناً ذات وظيفة تحديثـــية ميمونة، كلّ هذا وجد في تاريخ الليبرالية العربية منذ بدايات تشكّلها. 

طبعاً، وجد بعد ذلك الميل إما إلى الرفع من شأن الثقافة العربية ما بين نهايات السلطنة العثمــــانية، وبداية عصر الانقلابات العسكرية في المنطقة للحط من شأن ما أتى بعد ذلك، وإلى حد ما صحيح جداً أن حيوية ثقافية وفكرية عربية عرفت في العقود السابقة على صعود العسكر، وبالذات على عصر «23 يوليو». لكن الجدل يمكن أن يطول ما إذا كانت هذه الحيوية وصلت إلى طريق مسدود بالتزامن مع صعود العسكر، أو أنّ العسكر هو الذي قوّضها. 

طبعاً، ثمة أيضاً ليبرالية نسبية. فرئيف خوري مثلاً يتحلّى بنزعة ليبرالية في تاريخ معتنقي الفكر الماركسي العربي. وهذا هو المعنى النسبي: أيْ إنّه يحاول أن يفكر بنفسه، وإنْ أراد أن يبقى أميناً للمنهاج الذي يتبعه، والمثل التي يعتمدها. أكثر من ذلك، شخصية شيوعية كفرج الله الحلو تبدو بالمعنى النسبي ليبرالية بإزاء شخصيتين شيوعيتين حديديتين ولو من منزلتين مختلفتين؛ كيوسف سلمان يوسف «فهد»، مؤسس الحزب الشيوعي العراقي وشهيده، وخالد بكداش، الذي واجه بشدة العروبة الناصرية إنما لينحني بعد ذلك بشكل تبعي وطوعي لـ«العروبة» الأسدية. وفي معترك القوميين، يمكن أن يقال عن قسطنطين زريق قومياً ليبرالياً، إذا ما قورن بحملة الأفكار القومية العروبية وغير العروبية في بلدان الإقليم. بهذا المعنى، ترادف الليبرالية النسبية الأنسنية. فالماركسي يتحلى بهذا النوع من الليبرالية عندما لا يسلّم حرّية فكره للمنهج، كما لو كان آلة متعالية على محدودية الإنسان وكونيته في آن، وعندما لا يجحد الحريات العامة والخاصة حقّها بحجة التحرّر الذي يعبّد طريقه جيل كي يراه جيل آخر. والقومي يكون ليبرالياً عندما لا يتعامل مع الأمة كجوهر ثابت ورساليّ لا يشكّل الناس وأمزجتهم وظروفهم وتعدديتهم سوى أنسجة أو أمثلة عليه. والإسلامي أيضاً يمكن أن يكون ليبرالياً. لكن ذلك لا يكون بأنْ يعتبر الليبرالية سياسية كانت أو اقتصادية، موجودة سلفاً في القرآن والسنّة، كما اعتبر في عقود القرن الماضي أن الاشتراكية موجودة هي الأخرى فيهما. 

وقد يكون الإسلامي ليبرالياً بمعنى سياسي لحظوي وعارض. كأن يقف مثلاً بوجه طروح أخرى داخل الحركة الإسلامية أكثر تزمّتاً، وجحوداً للحرّية الإنسانية، أو أنه يخوض فعلاً محاولة اجتراح ليبرالية ذات منحى إسلامي، بأن يعطي لفكرة استخلاف الإنسان مضموناً أنسنياً بامتياز، وهذا قد يسهل شعاراً عاماً، ويصعب برنامجاً مفصّلاً.

لكن شلل الليبرالية العربية في السنوات الأخيرة أخذت من الرواد مشكلاتهم دون حيويتهم الثقافية والفكرية والأدبية. وأخذت عن الليبراليين بالمعنى النسبي تحدّرها من انتماءات أيديولوجية، منها اليسارية وأقل منها القومية وأقل منها الإسلاموية. إنما من موقع الإنكار العملي لهذا الانتماء الأيديولوجي السابق أو التندّر عليه، وجعل هذا التندّر بطاقة انتساب لليبرالية. «كم كنا ساذجين»: بهذه العبارة يريد الليبرالي العربي اليوم أن يستثمر في ماضي انتمائه الأيديولوجي السابق، ماركسياً كان أو قومياً. أما الغرض، فتقديم الموعظة للناشئة كي لا ينالها الشطح نفسه. 

هناك على الأقل ثلاثة أعطاب تجعل الليبرالية العربية المعاصرة تبدو بمظهر بال ثقافياً، وهي في قمة ادعاء الجدّة، وفي مظهر هزلي سياسياً وهي في قمة افتعال الجد. 

العطب الأوّل هو أنّ الأنظمة العربية في العقود الأخيرة كانت بشكل عام «ليبرال فرندلي». بالتأكيد كانت هذه الأنظمة تحاول أن تلتقط الوتر الشعبوي بإزاء المنظمات غير الحكومية، وبالتالي ضد عدد من الوجوه الليبرالية. لكنها كانت أيضاً أنظمة تتبنى معزوفات ليبرالية رائجة، منها أنّ الليبرالية الاقتصادية تعبّد الدرب لتلك السياسية، ومنها أن التحول إلى الديموقراطية الليبـــرالية يستلزم مجموعة بناءات: بناء الفرد، حكم القانون، بناء السوق الحرة، بناء الدولة. 

وهكذا عندما يتشاوف ليبرالي عربي «أنا فرد، أنا فرد» فهو أكثر ما يقترب من لسان حال نظامي مبارك أو بن علي «أعطونا العقود الزمنية الكافية لبناء مجتمع الأفراد». 

العطب الثاني أنه في وقت رفض الليبراليون العرب سؤال المسؤولية، أي سؤال النقد الجدي لما اقتبسته الأنظمة العربية من الإحالات إلى الليبرالية، فقد حاولوا تزوير تاريخ العام 2011 وتحويلها إلى ملحمة ليبرالية، وهذا هو الزيف عينه. وبعض ما حصل بعد العام الربيعي الأول يرتبط بهذه النظرة. التغني بما انتاب الربيع العربي من قصور (تهميش أي سؤال اقتصادي اجتماعي، التأخر المريع لإدراك أبعاد استهلاك النبض الميداني بثنائية عسكر وإسلاميين)، ومسخ ما حققه من صفحات مجيدة (كما لو كان كل همّ المنتفضين هو إحلال رجال أعمال مطلقي الأيدي محل رجال أعمال مكبّلين وخاضعين أمنياً). 

العطب الثالث، هو جمع الليبراليين العرب بين الافتخار وكره الذات. لسان حالهم يقول: «ما أحلانا كأفراد عارفين مستنيرين أحرار في وسط هذا الكوم من الأقوام الجاهلة والمتحاربة.» لكنه يقول أيضاً: «ما أسوأنا كأمة، والسوء متأصل فينا، بل هو منا بمنزلة الجوهر». في نص واحد يمكن أن يكتب الليبرالي العربي الأمرين معاً. يمتدح نفسه بأنه كالوردة بين الأشواك، ويحاكي الفوقية الكولونيالية عند تشنيعه على المجتمعات التي «لا تريد أن تتقدّم». 

هل يمكن أن تجترح ليبرالية عربية راهنة خالية من هذه الأعطاب؟ لا مستحيل. لكن الأمر لن يحدث من تلقائه. ولن يحدث بالليبرالية وحدها. فالعطب الأول، الذي ينظر إلى الفرد كعملة نادرة، يستدعي في حال الإقلاع عنه رؤية الواقع التعددي على ما هو عليه أكثر، وباتجاه العمق الاجتماعي والاثني له. «إنتاج الأفراد» هو مرض الليبرالية العربية. الفرد هنا، هنا في المدن، في الضواحي والبوادي والأرياف: هذا إمكان ليبرالية نقدية وعملية. 



(نقلاً عن صحيفة القدس العربي)