كتاب عربي 21

عبودية الديون

1300x600
واحدٌ من أقوى الأسلحة التي تستخدم لنشر وتعزيز سيطرة النظام الإمبراطوري الجديد، أو إمبراطورية رأس المال، هو سلاح الديون، فمن خلال خلق الديون تقوم المؤسسات المالية الدولية بانتزاع سلطة القرارات السياسية المفصلية من الحكومات الوطنية؛ مثل القرارات المتعلقة بتخصيص الموارد والإنفاق الحكومي والسياسات التجارية والضوابط النقدية، وما إلى آخر هذه القرارات. فالديون يمكنها أن تُخضِع أي بلد أكثر بكثير من الاحتلال العسكري.

على عكس غزو القوات الأجنبية ودخول الدبابات لتجوب الشوارع، سنجد أن الخداع الكامن وراء القروض هو ما يوهم بأنها شكل من أشكال المساعدات المالية، أو أنها دفعة لتعزيز الاقتصاد الذي بدوره يغذي الاستقلال، فخطاب الجيوش الأجنبية التي كانت تدعي أنها تغزو البلاد لتحررها من الطغيان لم يعد نوع الخطاب الذي يصدقه أي مخلوق هذه الأيام، ولكن عندما يقدم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي أو بعض الدائنين الآخرين مليارات من دولار في شكل قروض، فهؤلاء يتم الترحيب بهم مع شعور بالامتنان متفق عليه بالإجماع تقريبا.

الشروط التي يتم فرضها من قبل الاحتلال العسكري مثل: حظر التجول ونقاط التفتيش والقيود على الحركة، تكون عادة واضحة وفورية، أما الشروط التي يفرضها الاحتلال الاقتصادي مثل: خفض الإنفاق العام والخصخصة وتعديل النظام الضريبي، وما إلى ذلك، فهي لا تحدث بشكل فوري كما يصعب في كثير من الأحيان على المواطن العادي أن يفهمها، ولكن الأثر النهائي لهذه الشروط يكون أكبر وأطول أمدا بكثير عن أي مستوى من الهيمنة يمكن تحقيقه من خلال الغزو العسكري التقليدي.

بعد أي ثورة، عندما تتم الإطاحة بأي نظام دكتاتوري فاسد، تكون الخطوة المعيارية الصحيحة هي إلغاء ديون الديكتاتور السابق، أو على الأقل إخضاعها لمراجعة دقيقة لتحديد إلى أي مدى تم تخصيص هي المبالغ التي وردت من الدائنين الدوليين في خدمة الأهداف المعلنة. وهذه خطوة أساسية؛ لأنها الخطوة التي تضمن أن ما حدث كان فعلا ثورة حقيقية وليس مجرد تداول للسلطة. فالحكومة الجديدة يجب أن تُحدِث قطيعة تامة في العلاقة بين النظام السابق ومؤيديه الدوليين، ثم تعيد تحديد أُطُر أي علاقات جديدة، أو بعبارة أخرى كما نقول دائما، يجب أن تبدأ على صفحة بيضاء.

من الواضح أن هذا لم يحدث في مصر، ولم يحدث في تونس، ولا في أي بلد من بلدان الربيع العربي، فبدلا من ذلك رأينا كيف أن الحكومات الجديدة التي تولت السلطة بعد الإطاحة بالطغاة المعمرين، بذلت كل جهد ممكن لتأكيد التزامها بعهود هؤلاء الطغاة تجاه مموليهم، فكان هذا الموقف كافيا لتحويل ما كان يمكن أن يصبح ثورات إلى ما لا يزيد عن مجرد عملية لتداول السلطة من طرف إلى آخر، مع الحفاظ على الاستقرار العام للنظام. 

من وجهة نظري كان هذا أكبر خطأ لمن يمثلون الأحزاب المعارضة المستفيدة من هذه الانتفاضات، فهم لم يتابعوا ما بعد هذه الإطاحات، ولكنهم ببساطة استبدلوا الحاكم المخلوع بآخر، وتركوا كل شيء على ما هو عليه.

عليه اليوم. ما يبدو واضحا جدا في مصر، هو الضغوط المتزايدة للإجبار على خفض قيمة العملة المحلية، مع بروز هدف واضح لتعويم سعر صرف العملة في نهاية المطاف. واحد على الأقل من الأسباب الرئيسية لهذا الهدف هو زيادة تأثير الديون بشكل تعسفي، فعندما يحدد السوق قيمة العملة، سيصبح السوق هو أيضا الذي يسيطر على قيمة الديون، وبالتالي سيسيطر على قدرتك على سداده مرة أخرى. فإذا حصلت على قرض، مثلا، عبارة عن 100 مليون دولار في عام 2011، ستجد أنك بسبب انخفاض قيمة الجنيه المصري أصبحت تدين بـ150 مليون جنيه، أكثر مما كنت تدينه عندما أخذت القرض أول مرة، رغم أن قيمة الدولار لم تتغير، وهذه آلية لجعل الدين غير قابل للسداد؛ لأن المبلغ الذي يجب تسدده بعملتك يمكن أن يتزايد بشكل تعسفي، من خلال خفض قيمة عملتك... فقيمة عملتك هذه سيحددها أساسا الدائنون.

لا توجد وسيلة للخروج من حفرة الرمال المتحركة هذه إلا بإلغاء الديون من طَرَف واحد، وهذا هو ما يجعل الثورات منتصرة، ودون هذه الخطوة ستظل الثورات دائما لاغية، كأن لم تكن.