كتاب عربي 21

العثماني كما عرفته

1300x600
تمر تجربة حزب العدالة والتنمية المغربي بمنعرج يصعب حاليا التكهن بتداعياته السياسية. 

لكن أهم ما يميز هذا الحزب، أن قادته يتمتعون ببرغماتية عالية، وتقودهم فكرة رئيسة مفادها: حيثما يكون الملك تكون الجماعة. 

لا يعني ذلك تبعية الحزب للقصر كما يتهمهم خصومهم، ولكن القصد أنهم منذ أن قرروا التخلص نهائيا من جبهة التنظيم السري للشبيبة الإسلامية، عدلوا ساعاتهم وعقولهم، وقرروا تجنب كل ما من شأنه أن يقحمهم في صراع مفتوح مع الملك. 

وهذا الاختيار هو الذي قادهم إلى أن يتحولوا إلى أهم حزب في المغرب، بعد أن تراجعت أحزابه الرئيسة مثل حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. 

ولهذا، ليس مفاجئا تعليق بنكيران على قرار الملك محمد السادس إعفاءه فجأة من تشكيل الحكومة بقوله: "جلالة الملك عينني وأعفاني جزاه الله خيرا، وعيّن شخصا آخر، وقررنا أن نتفاعل إيجابيا مع قراره". 

صرح بذلك رغم أن القرار كان مؤلما له شخصيا، لكن الواجب يقتضي تغليب مصلحة الحزب، وتجنب ردود الفعل المتشنجة، والمكلفة، على الصعيدين القريب والبعيد.
 
أذكر أنه بعد تشكيل تيار الإسلاميين التقدميين في مطلع الثمانينيات، قمت بزيارة إلى أبرز ممثلي التيار الإسلامي في المغرب، والتقيت يومها بشخصيات عدة كانوا في تلك المرحلة شبابا، من بينهم عبد الإله بن كيران، الذي كان ولا يزال يتميز بالبساطة والعفوية المخلوطة بذكاء حاد.

وما لفت نظري منذ اللحظات الأولى للتعارف، حرص هذه المجموعة على معرفة دقائق التجربة التونسية، وتفاعلوا بشكل واسع مع النبرة النقدية التي طغت في حديثي عن تجربة الإخوان المسلمين.

وفهمت منهم أنهم أيضا قد شرعوا يومها في مراجعات حركية وأحيانا فكرية، من أجل وضع مسافة واضحة بينهم وبين السياق المشرقي، بكل سردياته ورهاناته. 

لكنهم في الآن ذاته، فضلوا تجنب الإعلان عن القطع مع الإخوان، واتجهوا بهدوء نحو إضفاء الطابع المغربي على تجربتهم الحركية، بعد أن تخلصوا من الفخاخ التي تضمنها كتاب معالم في الطريق لسيد قطب.

بقيت متابعا لتطورات التجربة الحركية المغربية، حيث التقيت مع الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله يوم كان تحت الإقامة الجبرية في بيته، وتوقفت عند الخلافات الحادة بين جماعته العدل والإحسان وبين المجموعة التي تدير حاليا حزب العدالة والتنمية، التي بالمناسبة أطلقت على نفسها هذا الاسم من قبل أن يستعيره الأتراك منهم.

وتوطدت العلاقة والحوار بالخصوص بيني وبين الدكتور سعد الدين العثماني، الذي يعدّ الرجل الثاني في الحزب. 

وهو شخصية لطيفة من أسرة متدينة، متخلق ومحاور هادئ، استفاد كثيرا من تجارب المرحلة السابقة، وأصبح يتمتع عبر الزمن بثقافة دينية ذات مضامين إصلاحية رغم مرجعياتها التقليدية، وذلك بحكم طبيعة الحركة التي ساهم في تأسيسها. 

وبما أننا نتحدث عنه اليوم بصفته رئيسا للحكومة، يجب الإشارة إلى مقولته الرئيسة التي اشتغل عليها طيلة السنوات الأخيرة ، القائمة على ضرورة التمييز بين أعمال النبي الذي هو من جهة مبلغ رسالة من الله إلى عباده ومن جهة أخرى هو بشر، تصدر عنه أقوال وأعمال دنيوية، أي ملتصقة بصفته البشرية. 

وضمن ذلك في حوارات عديدة، وفي مؤلفات مثل "في فقه الدين والسياسة" و"تصرفات الرسول بالإمامة" و"الدين والسياسة تمييز لا فصل".

هذا الجهد النظري هو مقدمة ضرورية لأي إسلامي يرغب في خوض غمار السياسة ضمن سياق معاصر وتعددي وديمقراطي، ويسلم بوجود الحد الأدنى من الحقوق والحريات التي لا يمكن القفز عليها أو إسقاطها من الحساب. 

فالعثماني لا يريد أن يقحم نفسه وجماعته في مقولة خطرة، وهي الفصل بين الدين والسياسة، خاصة في ظل نظام سياسي لا يقول بالفصل. 

لكن في المقابل، لا يستطيع أن يزعم بأن اختيارات حزبه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هي جزء لا يتجزأ من رسالة الإسلام ومنهج النبوة. 

فالتمييز بين البشري والإلهي، وبين الدنيوي والديني، يعدّ مقدمة ضرورية لإدماج الإسلاميين من ذوي التوجه الديمقراطي في منطق الدولة المدنية. 

وعندما تسأل العثماني عن سياسة حزب العدالة والتنمية في مجال تنظيم الشأن الديني، سيجيبك ببساطة بأن الحزب ليست له سياسة في هذا المجال، لأن ذلك ليس من صلاحياته، وإنما من صلاحيات الملك محمد السادس الذي يحمل صفة " أمير المؤمنين". 

وهكذا، يعزز الحزب شرعيته انطلاقا من شرعية النظام السياسي القائم في المغرب منذ قرون، الذي لا يفصل بدوره بين الدين والدولة.

ثار جدل حول ما إذا كان تولي العثماني رئاسة الحكومة بعد إبعاد بنكيران يؤشر على نهاية حزب العدالة والتنمية، في حين أن من يعرف الرجلين يعلم بأنهما قد يختلفان في الطبع ويتباينان في بعض المواقف والرؤى، لكنهما يتفقان في التوجه، ويتكاملان في الأدوار ويركبان السفينة ذاتها. 

كل ما في الأمر، أن التداول في القيادة سيؤدي إلى بقاء الحزب في السلطة إلى أن يأتي ما يخالف ذلك. 

أما الحصيلة النهائية لهذه التجربة، فسيقررها الشعب المغربي، من خلال صناديق الاقتراع، واستعراض الحصاد الاقتصادي والاجتماعي لهذا التحالف الحزبي، بقيادة "العدالة والتنمية".