كتب

هل اللغة مسؤولة عن تناحر الفرق العقدية وتعدد المذهبية؟ كتاب يجيب

التجربة الإيمانية لا تكون جماعية جامعة حتى تمرّ باللغة فتبني مفاهيمها وتعاليمها..
التجربة الإيمانية لا تكون جماعية جامعة حتى تمرّ باللغة فتبني مفاهيمها وتعاليمها..
الكتاب: "العقائد: سلطة الهويات ومطلب الحرّيات"
المؤلّف: الدكتور صالح الأعجيلي
النّاشر: مجمّع الأطرش للكتاب المختص ـ  تونس
الطّبعة: الأولى - مارس 2024
عدد الصفحات: 162


يحظى مبحث العقائد ببالغ الأهمية دراسة وتدريسا وتأليفا، وذلك لدور العقيدة في بعث الطمأنينة النفسية وتأثيرها البائن في تحديد مستويات التعايش وأنماطه مع الآخر. ولئن شكّل التنافس السياسي محرّكا فاعلا في كلّ من التطاحن العقدي الإسلامي والصراع الكنسي المسيحي المدمّر على مدى قرون، فإنّ "اللغة ـ باعتبارها علوم الوسائل ـ التي بها وفيها تتشكّل الفهوم"، كانت القادح الأبرز والمتواصل للصراع العقدي الذي اتخذ شكل هويّات  متقاربة أو متنافرة عقديا وثقافيا وفكريا، حتى داخل الدّين الواحد.

ويكمن ارتباط التحيّز العقدي وصراعاته بمبحث اللغة في كون العقيدة لا تصل إلى المتلقّي إلاّ عبر وساطة اللغة، وهي وساطة تفرض قوانينها المعجمية والتركيبية والبلاغية وتكون بذلك سلطة تمرّ العقيدة من خلالها وقد تشكّلت بشكلها ولبست رداءها "ليكتمل استواء البنية العقدية على شاكلة البنية اللسانية واستلزامات هذا الاستواء الهَوَويّ، وأبرز مخرجاتها تسلّط الهوية اللسانية على الهوية العقدية".

وعلى صعيد ثان، وفي إطار الصراع العقدي الإسلامي -المسيحي، على وجه الدقّة، يندب المنافحون عن الإسلام استراتيجية إيراد ثناء رجالات من مشاهير الغرب خلال ردّهم على إساءات بعض أهل الغرب لرسول الإسلام. فيجدّون بذلك في "انتزاع هذا الاعتراف من الآخر ليكونَ أو ليكتمل كيانها على الأقل". فهوية الآخر تمثّل من خلال هذا المنظور بشكل من الأشكال سلطة تَسْتَبْطِنُها الأنا على هويتها العقديّة، هذا إضافة إلى سعي الآخر المستشرق الدارس للتسلط على العقيدة الإسلامية أو سعي الدارس المسلم للعقيدة المسيحية ليكون سلطة في تشكّل المنظور العقدي للمسيحي أو تشكّل منظور المسلم للعقيدة المسيحية، يؤكّد الدكتور صالح الإعجيلي في كتابه "العقائد: سلطة الهويات ومطلب الحرّيات".

ولأنّ الصّراع العقدي متمددُ في الزمان والمكان، واتخذ في العقود الثلاثة الأخيرة أشكالا مستجدّة من الصراع، ساهمت المنصّات الافتراضية في النفخ في رماد حرابه الدّفين واستمرأت  لظى نيرانه الأجيال الجديدة، فإنّ بحث موضوع العقيدة ومعالجة علاقتها بالهوية، أمر مستطرف وبالغ الأهميّة.

البنية الإيمانية ذات هوية لسانية

في هذا الإطار، يتنزّل كتاب "العقائد: سلطة الهويات ومطلب الحرّيات" للمؤلّف الدكتور صالح الأعجيلي، باحث بمركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية بتونس (سيريس)، حاليّا، وباحث بمركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة-تونس سابقا، والذي اجتهد في "تبيّن معالم الهويّة العقديّة الكلّيّة اللّغويّة بنيةً وانتظاما، وكيفية صياغة علم الإيمان على قواعد علم اللّسان بنيةً وفَهْمًا، وذلك لتحديد هويّة الإنسان باعتباره كائنا لغويّا وكائنا دينيّا في آن". وقدّمت الكتاب د. بيّة سلطاني أستاذة تعليم عال- اختصاص أصول الدين بالمعهد العالي للحضارة الإسلامية- جامعة الزيتونة.

والدكتور صالح الأعجيلي، متحصّل على الدكتوراه في اللغة والآداب العربية تخصّص لغة، وعلى الدكتوراه في العلوم الإسلامية تخصّص أصول الدين، وله عديد المؤلفات، أحدثُها: "هوية العقيدة الإسلامية: البنية الكلية والبنى الجزئيّة" (ط1، 2022)، "النظام الزماني اللغوي: من البنية المجرّدة إلى النص القانوني" (ط1، 2024) و"العقائد: سلطة الهويات ومطلب الحريات" (ط1، 2024).

ولئن سلّط الكتاب الضّوء، في جزء منه، على إشكال وقوع العقائد بين سلطة الهويات ومطلب الحريات. وهو "السبب الأساسي غير المصرّح به عادة لعديد الإشكالات العقدية التي قد تتّخذ صِيَغًا إيديولوجية أو سياسية أو مسلّحة مؤثرة في واقع البلاد الإسلامية والساحة العالمية"، فإنّ الأساس النظري الكتاب يكمن في البحث الأوّل منه والذي جاء بعنوان "البنية اللّغويّة للعقائد الإيمانيّة: الإنسان بين اللّسان والإيمان"، والذي نفرده بهذا التقديم المكثف. ويقوم بحث "البنية اللّغويّة للعقائد الإيمانيّة: الإنسان بين اللّسان والإيمان" على فكرة "ردّ بنية الإيمان إلى بنية اللسان. فالبنية الإيمانية ذات هوية لسانية". والمعنى وفق الدكتور الأعجيلي، افتراضُ سيطرة البنية اللغوية على البنية العقدية، فالتجربة الإيمانية لا تكون جماعية جامعة حتى تمرّ باللّغة فتبني مفاهيمها وتعاليمها، وهي بهذا المرور تلتبس باللّغة وبنيتها فلا يمرّ شيء لا تقبله البنية اللغوية.

من العقيدة الكلّية إلى العقيدة الجزئية ومن الدّين إلى المذهب

يَفترِضُ الدكتور الإعجيلي في هذا الكتاب-البحث أنّ اليقين في العقيدة مجاله ضيّق، وأنّ دائرة الإمكان في العقيدة واسع. فإذا اتسعتْ دائرة اليقينيات تحوّلتْ العقيدةُ الكلّية إلى عقيدة جزئيّة، بمعنى تحوّلُ عقيدة الدين إلى مذهبٍ لفئة من أتباع ذلك الدين.

في هذا السياق، يشير الأعجيلي إلى أنّ المسار من الدين إلى المذهب ومن العقيدة الكلية إلى العقيدة الجزئية هو مسار طبيعيّ في تشكّل الهويّات وبناء النظريّات، بل هو أساسيّ في البنية اللّسانيّة أو البنية العقديّة. إنّ المشكل الحقيقيّ في هذا المسار هو في التوهّم المذهبيّ ـ الذي ينشأ في مستوى التعجيمِ ـ في أنّه ناشئ في مستوى التجريد، وهو الإشكال الواقع في الأدبيات الكلاميّة. إذ إنّ دلالة البنية اللغويّة تكتنز دلالات محتملة كثيرة ممكنة، تتفرّع عن كل دلالة محتملة ممكنة دلالات محتملة أخرى ممكنة يتدخّل في ذلك التركيب والاشتقاق والمعجم وقصد المتكلم وفهم المخاطب والظروف التي يقع فيها الخطاب ومقتضيات التداول.

المسار من الدين إلى المذهب ومن العقيدة الكلية إلى العقيدة الجزئية هو مسار طبيعيّ في تشكّل الهويّات وبناء النظريّات، بل هو أساسيّ في البنية اللّسانيّة أو البنية العقديّة.
ويؤكّد الدكتور الإعجيلي أنّ قلة الدلالات المتعينة للبنية اللغوية العقدية المجرّدة المتمثل في التوحيد يصاحبه غنى دلاليّ احتماليّ في التصوّر الذهني الحاصل من مفهوم هذا المبدأ، ويقابل هذا المستوى الصيغيّ الأعلى المجرد من البنية، مستويات صيغية أدنى للبنية -بدءا من الصيغة العليا المجردة وصولا إلى الصيغة الدنيا المعجمة التداولية- تضيّق من تلك الاحتمالات الممكنة لترشّح دلالة محتملة واحدة تجعلها التمثيل الأمثل للدلالة المتعينة في الصيغة العليا المجردة.

إنّ الإشكال الحاصل في التاريخ الفِرَقِيِّ للمسلمين ـ ويمكن تعميم هذا الأمر في مختلف الفرق المؤوّلة الدينية بل حتى غير الدينية ـ إنما هو في تصعيد دلالات صيغة دنيا معجّمة ومؤوّلة بحسب قدرة المخاطَب على تلقي الخطاب والمؤثّرات العقلية والطبيعية والاجتماعية والمهارة اللغوية والحالة النفسية والمستوى العمري والمستوى المعرفي الفردي والجمعي والإنساني، تصعيدها إلى مستوى الدلالات الأولية في الصيغة العليا المجردة أو التي أدنى منها (الصيغة الإعرابية المجردة) في تجاهل كامل لعدم اكتساب علاقة التضمّن لخاصية التبادل. من هذا الباب، ما يعرف لغويّا بـ"التقدير" أي العمل التأويلي الذي ينزع بالدين إلى أن يكون مذهبا مُشبعا بالتعجيم الدلالي وهو قراءة تأويلية للدين وليس الدين القابل لأكثر من تقدير في مضمراته أو محذوفاته.

اللغة قوام التجربة الإيمانية الجامعة

يقول الدّكتور الأعجيلي بأنّ التجربة الإيمانية لا تكون جماعية جامعة حتى تمرّ باللغة فتبني مفاهيمها وتعاليمها، وهي بهذا المرور تلتبس باللغة وبنيتها فلا يمرّ شيء لا تقبله البنية ولذلك اعتبِرَ الإيمان اجتماعيًّا لمن يرى اجتماعية اللغة، وبالنسبة إلى من يقولون بفطرية اللغة فقد اعتبروا المبادئ اللغوية أسبق من المبادئ الإيمانية وإنما تلتقي اللغة بالإيمان في مستوى الإنجازِ، والإنجازُ اجتماعيّ بامتياز، بينما بالعودة إلى فكرة فطرية الإيمان وفطرية اللّغة فإننا نجد تماثلا في الرؤيتين اللسانية والإيمانية فقد رأينا أنّ مفهوم الفطرة الإيمانية في التراث الإسلاميّ يعني الاستعداد الطبيعي للخير وللإيمان يثبّته الفعل الاجتماعيّ أو يثبّطه في اتجاهات شتى وهذا بالضبط مفهوم القدرة والانجاز أو المبادئ والوسائط في النظرية التوليدية في مسألة الاكتساب اللّغويّ.

التباسات اللغة سبب في التباسات العقيدة

من لطائف الكتاب بيانه أنّ البنية اللسانية ليست من مهامها دائما بيان قصد المتكلم وإيضاحه بل إلباس المعنى على المخاطَب، فاللغة قد تؤسس لعدم التفاهم. ولئن كانت بعض أسباب هذا الالتباس خطابيّة فإنّ الأسباب البنيوية في اللغة هي مدار اهتمام الكتاب.

إنّ إخفاء المعنى أو إظهاره هدفان أساسيان متساويان في القيمة بالنسبة للبنية اللسانية وقد كان العربيّ واعيا بهذا التجانس فكان فعل "بان" دالاّ على الظهور والخفاء. إنّ البنية اللغوية العقدية إذ تولّد بشكل احتمالي عددا كبيرا من الدلالات العقدية المحتملة فإنه قد تترشّح إلى الصيغ البنيوية الدنيا المعجّمة بعض الدلالات التي لها كفاية تداولية متكافئة تقريبا، ما يشكّل حالة ملتبسة في المعنى المقصود بالقول. وقد يكون من تلك الدلالات ما يسمّيها الكاتب وحوشا أو إفراطات دلالية كانت سببا لجدل واسع بين العلماء وحتى عامة المسلمين لقرون عديدة لا يزال أثر غباره إلى اليوم.

يضرب الأعجيلي مثالين تراثيين لتلك الوحوش الدلالية متمثّلا في التعطيل والتجسيم، الأولى دلالة وحشية ناتجة عن دلالة التنزيه، والثانية دلالة وحشية ناتجة عن دلالة الفعالية، ويمكن لنا نحن أن نذكر دلالات أخرى وحشية لغوية أصابت العقيدة في مجتمعاتنا المعاصرة مثل الولاء للسلطان كتفريع وحشي عن الدلالة العقدية الأولية: الولاء لله، وأيضا مثال دلالة السماء جوابا عن سؤال أين الله وهو تفريع وحشي عن الدلالة العقدية الأولية: صفة الله الأعلى.

يبدو أنّ الاطّلاع المتين على المدوّنة الأصولية وقضايا التجديد الأصولي والتمكّن من المنهج اللساني قد ساعد الدكتور الأعجيلي في صياغة مقاربة جديرة بالتنويه وجعل كتاب "العقائد سلطة الهويات ومطلب الحريات" مؤشّرا مفيدا في اختصاص أصول الدين ودليلا على تأكيد العناصر الطريفة في المعرفة الأصولية، بحسب عبارة بية السلطاني مقدّمة الكتاب.
التعليقات (0)